عاجل_ اخبار الدار
الرئيسية / قسم الاسلاميات / مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة

مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة

 

 

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. وبعد: فنبدأ مستعينين بالله تعالى في التحدث عن قضية الإيمان، وهي قضية مهمة.

فكما تعلمون أنه منذ أن خرجت المارقة الخوارج في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والأمة مختلفة في هذه القضية اختلافاً شديداً، فإن خروج هذه المارقة أدى إلى خروج المرجئة ثم تشعبت الفرق، فتعددت الأهواء، وظلت الفرقة الناجية على ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فلم يغيروا ولم يبدلوا تبديلاً، ولكن مرّت دهور وأزمان انحصرت فيها المفاهيم، وقلَّ فيها أهل السنة مما أدى إلى انتشار بدعة الإرجاء والخوارج ، وإلى ضياع معايير الإيمان والكفر، وإلى تشتت أفهام الناس في هذا الموضوع، وهو موضوع جدير وحري بأن يناقش وأن يفصل فيه بالأدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي يقتفي أثر الفرقة الناجية لا يأتي بجديد ولن يأتي بجديد، وإنما المطلوب بل الواجب علينا هو الاتباع لا الابتداع. إنَّ أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تلقوا الإيمان قولاً وعملاً واعتقاداً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معايشتهم للوحي، وجاهدوا وضحوا وعملوا بهذا الإيمان لأجل تحقيقه واستكماله، فهم أعلم الناس به وأعرفهم بحقيقته، وقد تلقى ذلك عنهم التابعون لهم بإحسان، ثم تلقته الأجيال بعد الأجيال، حتى بلغنا غضاً طرياً.
فنحن أوجب ما يكون علينا أن نرى كيف فهموا الإيمان، وكيف فسروه، ثم نجعل ذلك معياراً لنحكم به على الفرق أو على الآراء والمذاهب، ولنعرف أين موقعنا نحن من هذا الإيمان، وما موقع هذه الفرق الضالة منه، وما الفرق بين من خرج من الدين ومرق منه بالكلية، ومن كان على بدعة وضلالة، ومن كان دون ذلك كمن أخطأ في اجتهادٍ أو أمرٍ مما يخطئ فيه العلماء. فهذه المعايير الواضحة من الضروري أن نعرفها، وأن تكون واضحة لدينا. والقضية الأولى وهي الركن الركين في مفهوم الإيمان، هي أنه بالنسبة لأهل السنة والجماعة ، فالقضية عندهم قضية إجماعية، فلم يقع الخلاف بين أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو التابعين أو من بعدهم من أهل السنة والجماعة في حقيقة الإيمان مطلقاً؛ فإن أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة كلها قضايا إجماعية، وهذه ميزة عظيمة تتفرد بها هذه العقيدة، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى، لأنها هي عقيدة الفرقة الناجية ؛ ولأنها هي العقيدة المقبولة عند الله تبارك وتعالى، فأجمعت عليها الأمة ولله الحمد، ومن خرج عن هذا الإجماع فقد حكم على نفسه بالشذوذ بداهة، وحُكم عليه بالابتداع بمخالفته لهذا الإجماع، فعلى أي شيء أجمع أهل السنة والجماعة في موضوع الإيمان؟ تعريف الإيمان عند أهل السنة نقول: إنَّ اللفظ -أو التعريف أو العبارة- التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة في الإيمان، هو: (أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) وهاتان الكلمتان على إيجازهما تحمل معاني عظيمة جداً. فإذا سُئلت وقيل لك: ما هو الإيمان عند أهل السنة والجماعة ؟ فإنك تقول: الإيمان قول وعمل. وسنعرف معناها بعد أن نتأكد ونتبين من أن الإجماع قد وقع عليها، وهذا الإجماع ثابت من المصادر الأصيلة. نقل إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل مثلاً: الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- يقول: ‘ لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، ويقول: أدركت العلماء على ذلك قرناً بعد قرن -أي طبقة بعد طبقة- في مصر والشام والحجاز والعراق وبغداد وواسط كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل ‘ فهؤلاء ألفٌ من العلماء الذين أدركهم الإمام البخاري كلهم يجمعون على أن الإيمان قول وعمل. ونقل مثل ذلك الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، فقالا: ‘ إننا أدركنا علماء الأمصار قديماً وحديثاً، شاماً ويمناً وحجازاً وعراقاً ، كلهم مجمعون على أن الإيمان قول وعمل ‘ وهذان النقلان أوردهما اللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ، وهو في اعتقاد الإمام البخاري وفي اعتقاد أبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم من أئمة السلف . وممن نقل الإجماع على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في كتاب الإيمان ، وقبل ذلك نقله الإمام الكبير الحجة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد نقل ذلك في كتابه الأم في باب النية: فقال: ‘أجمع الصحابة والتابعون على أن الإيمان قول وعمل’ ونقل مثل ذلك أيضاً الإمام محمد بن جرير الطبري فذكر إجماع الصحابة ومن بعدهم على أن الإيمان قول وعمل، ونقل ذلك أيضاً الحافظ ابن كثير في أول تفسير سورة البقرة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] أن هذا إجماعٌ من السلف الصالح، ونقل ذلك أيضاً الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ونقله عن الفضيل بن عياض وعن سفيان بن عيينه ، وعن غيرهم من الأئمة والعلماء، كما نقل ذلك الحافظ ابن رجب في أول كتابه جامع العلوم والحكم في شرح حديث جبريل. فالنقول كثيرة ومتوافرة ولله الحمد، وقد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله أسماء هؤلاء العلماء الذين أجملهم الآخرون، وذكر ذلك أو بعضاً منهم وغيرهم، وذكره الإمام عبد الله بن أحمد في كتابه السنة . وذكر مثل ذلك ابن بطة في الإبانة ، والآجري في الشريعة ، وسائر الكتب التي ألفت في العقيدة كلها تنقل الإجماع على ذلك، والشاهد أن الإجماع منقول وثابت على أن الإيمان قول وعمل. شرح تعريف الإيمان أما معنى هذه العبارة -كما فسرها السلف ومنهم الأوزاعي والشافعي وسفيان بن عيينه وغيرهم- فهو: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح.
فالقول يطلق على أمرين: قول القلب، وقول اللسان.
والعمل يطلق على أمرين: عمل القلب، وعمل الجوارح.
هذه الأربعة يتكون منها الإيمان، فهو يتكون من: قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح وإذا عرفنا هذه الأربعة بالتفصيل عرفنا حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة ، وعرفنا بعد ذلك لماذا يحكمون على مرتكب الكبيرة بأنه ناقص الإيمان، فلا يخرجونه من الملة كما تقوله الخوارج ، ولا يقولون هو كامل الإيمان كما تقوله المرجئة .

فأما قول القلب: فهو الإقرار والاعتقاد الجازم بما جاء في حديث جبريل عليه السلام، وهو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، أي: انقياد القلب وإذعانه وتصديقه الجازم، بالإيمان المجمل وهو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، الذي هو: الإيمان بالغيب. وهي الصفة الأولى التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صفات المؤمنين في أول سورة مدنية، وهي سورة البقرة، فقول القلب: هو الإقرار والاعتقاد والتصديق الجازم بما ورد في حديث جبريل.

وأما قول اللسان: فهو إظهار هذا الإيمان وقوله وتلفظه بشهادة أن لا إله إلا الله، أو ما يقوم مقامها في حال البدء، كأن يقول الرجل: آمنت أو أسلمت أو دخلت في دين الإسلام، أو شهدت بأن الله حق، إلى آخر ذلك، ثم يلتزم بسائر العبادات والشرائع، ومنها: وهو أولها وأعظمها: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا هو قول اللسان.

فتعبير اللسان عندما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هو تعبير عن الإيمان القلبي، الذي هو الإقرار بحقيقة ألوهية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر.

وأما اللفظة الأخرى من تعريف الإيمان وهي العمل، فتشمل عمل القلب وعمل الجوارح.

فأما عمل القلب فأمور كثيرة ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم، وفي حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن عمل القلب:

المحبة: محبة الله ورسوله، ومحبة هذا الدين.

ومن عمل القلب: الاستسلام والرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً.

ومن عمل القلب: الصدق، فإن المنافقين يقولون: نشهد إنك لرسول الله، ولكن لما شهد الله أنهم كاذبون في ذلك، لم ينفعهم هذا الإيمان ولا هذه الشهادة.

ومن عمل القلب: الإنابة، والإخبات، والخوف، والرجاء، والتوكل، والصبر، كل هذه الأعمال القلبية الواجبة شرعاً كوجوب الفرائض، بل هي الأصل لوجوب الفرائض فإن من لا توكل له ولا صبر ولا يقين ولا إخلاص ولا صدق؛ لا يستطيع أن يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن يقوم بهذه الواجبات وهذه التعبدات.

فعمل القلب -إذاً- يشمل كل ما جاء في الكتاب والسنة من الواجبات الإيمانية القلبية، التي لا بد ولا محالة أن يظهر أثرها على الجوارح، وإلا فإنه لا وجود لها إطلاقاً، لكن هي محلها القلب، كالتوكل فإن محله القلب -كما تعلمون- لكن لا بد أن يظهر ذلك على الجوارح، فإن عدم التوكل كأن يظهر المرء الجزع أو الهلع أو القنوط، فإن ذلك يظهر على جوارح الإنسان وعلى كلامه، أما المتوكل الصابر الموقن المخلص، فإن ذلك يظهر -ولا محالة- على جوارحه.

ومن أعظم ذلك الحياء، ولذلك أفرد في حديث شعب الإيمان الذي يقول فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {الإيمان بضع وسبعون -أو وستون- شعبة، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان   } فهذه الشعبة لأهميتها: أفردت، ولأنها خيرٌ كلها كما في الحديث الصحيح: {الحياء كله خير   }.

ولا يمكن أن نحكم أو نعرف أو نقول: إن الإنسان لديه حياء -وهو عمل قلبي- إلا أن يظهر ذلك على جوارحه، فإن مشية الإنسان الحيي غير مشية الإنسان الذي لا يستحي، وكلام الإنسان صاحب الحياء غير كلام الآخر، وكذلك صلاته وعبادته، وفعله لما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن الحيي يتورع عن ارتكاب المحرمات، ومن تجرأ على المحرمات وعلى المنكرات جزمنا وعلمنا بأنه فاقد للحياء كله أو بعضه، فهذه هي أعمال القلب، فعمل القلب -إذاً- هو هذه الأمور الباطنة من الإيمان.

وأما عمل الجوارح فهو: جميع التعبدات التي فرضها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الجوارح، كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمثال ذلك.
الإيمان حقيقة مركبة
ومن هذه الأربعة -أي من قول القلب وقول اللسان , وعمل القلب وعمل الجوارح- تتكون حقيقة الإيمان الكلية المركبة الذي هو الإيمان الشرعي، الذي جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلغه لنا بما أنزله الله من الوحي في القرآن، وبما علَّمنا إياه وفسره لنا في السنة.

ولذلك فإن أهل السنة والجماعة يحتجون على مخالفيهم بأنهم يفسرون الإيمان ويشرحونه، ويعبرون عنه بغير ما جاء عن الله وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجاب عن الإيمان وأوضحه بما يجاب به عن الحقيقة المسئول عنها، فإنه في حديث جبريل المشهور { قال: أخبرني ما الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره   } فالسؤال هنا عن حقيقة الإيمان، وأجاب النبي عليه الصلاة والسلام بذلك.

وفي حديث وفد عبد القيس -المتفق عليه- يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم: {أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخُمُس من المغنم   } وهذا الحديث متقدم على حديث جبريل، ولذلك لم يذكر فيه الحج مثلاً، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: أتدرون ما الإيمان؟ ثم شرح ذلك: فأدخل فيه الركن الأول وهو شهادة أن لا إله إلا الله، ثم ذكر الصلاة، ثم ذكر الزكاة، ثم ذكر أداء الخُمُس، الذي هو من غنيمة الجهاد.

وفي حديث شعب الإيمان السابق: {الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان   } فأعلاها هو هذه الشهادة وهذه الكلمة العظيمة التي هي تحوي جميع أعمال الإيمان القلبية الظاهرة والباطنة، وأدناها هو عمل من أيسر العمل وأهونها ولكنه مع ذلك يعتبر شعبة من الإيمان.

فيتبين من مجموع ذلك أن الإيمان فعلاً هو قول وعمل، وهذه هي التي عبر عنها العلماء بأن الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل.

فالإيمان مركب من هذين الجزأين، كما تتركب حقيقة الإنسان من الروح ومن الجسد، فلا يمكن أن نتصور وجود روح بدون جسد، ونقول: هذا إنسان له روح بدون جسد، ولا يمكن أن يكون هناك جسد بدون روح.

فأما الجسد بدون روح فهذا هو المنافق الذي يعمل أعمال الإسلام، ولكن لا إيمان في قلبه بهذا الدين، فهذا جسد بدون روح، فهم يصلون ويزكون ويجاهدون، ويعملون أعمال الإيمان، ولكنها بدون الإيمان القلبي، فهذه الأعمال الظاهرة هي كالجسد بدون روح، وأما وجود روح بدون جسد، فهذا لا يتصور أصلاً، أي لا يتصور أن يوجد الإيمان الباطن الحقيقي في القلب، ولا يظهر أبداً أثر له على الجوارح، فهذا من المحال مطلقاً، وفي هذا أعظم الرد على من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، حتى وإن لم يعمل الإنسان أي عمل من أعمال الإيمان، كما قالت بذلك الجهمية وتبعهم سائر فرق المرجئة إلى عصرنا الحاضر، وهذا موجودٌ في كل كتبهم: أن الإيمان عندهم -فقط- هو التصديق القلبي.

فكيف فهم السلف وكيف قالوا: إن الإيمان حقيقة مركبة من القول ومن العمل جميعاً.

نقول: فهموا ذلك من حديث جبريل، فقد ورد في روايات صحيحة له، أنه جاء رجل في آخر عُمْرِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال الحافظ ابن حجر : ‘ إن ذلك يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع وقبيل وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‘ وهو جبريل عليه السلام ليعلم المؤمنين دينهم، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في آخر الحديث-: {هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم   } لأن هذا آخر مجلس تذكر فيه هذه المعاني بعد اكتمال الفرائض.

وأما حديث وفد عبد القيس -مثلاً- لم يُذكر فيه إلا الشهادتان والصلاة والزكاة فقط، لكن حديث جبريل ذكر الخمسة الأركان الظاهرة، وذكر الستة الأركان الباطنة.

فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أخبرني ما الإسلام؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت   } فذكر الأركان الخمسة في جواب قوله: ما الإسلام؟ ثم لما {قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره   } وفي رواية صحيحة على شرط مسلم -رواها ابن مندة – قال له جبريل بعد أن ذكر أركان الإسلام: {فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم -وقال له بعد أن ذكر أركان الإيمان- فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم   } وفهم الإمام أحمد من ذلك تكفير من ترك ركناً من أركان الإسلام أو ركناً من أركان الإيمان، قال: ‘ ومن قال إنه يكون مؤمناً وإن لم يعمل شيئاً، فقد عاند الحديث ‘ فهو يقول: من قال: إن الرجل يكون مؤمناً بالتصديق القلبي الباطن فقط فقد عاند الحديث، ألم تره يقول: فإن فعلت ذلك فأنا مسلم، فإن فعلت ذلك فأنا مؤمن، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم وأهل السنة والجماعة -أيضاً- فهموا من هذا أن الإيمان قول وعمل: القول الباطن والعمل الباطن، القول الباطن الذي هو قول القلب، والقول الظاهر الذي هو قول اللسان، والعمل الباطن الذي هو عمل القلب، والعمل الظاهر الذي هو عمل الجوارح.

فمن هذا الحديث علمنا أن الأركان الستة هي أركان الإيمان، وهي أعمال باطنة: أن تؤمن بقلبك بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر.

وأما أركان الإسلام الخمسة فهي أركان ظاهرة: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج، أي أعمال ظاهرة بالجوارح.

فيتركب من هذين -أي: الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة- حقيقة واحدة، هي: الدين، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم   }، فلو تصورنا أن أحداً قال: الشهادتين وأدى الأركان الخمسة الظاهرة، ولكن في الباطن لا يؤمن بالله ولا بكتبه ولا برسله ولا باليوم الآخر، فهل هذا مؤمن؟ لا يمكن أن يكون مؤمناً أبداً.

وأيضاً لو قلنا بعكس ذلك: أن يكون إنسان يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولا يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يصوم ولا يصلي ولا يزكي ولا يحج، فلا يمكن أن يكون مؤمناً أيضاً.

إذاً الإيمان الشرعي يتركب من هاتين الحقيقتين معاً: من إيمان الظاهر وإيمان الباطن معاً، ولذلك لما كان في حديث جبريل أُفْرِدَ الإسلام والإيمان، أي قرنهما وذكرهما معاً، فأفرد هذا بتعريف، وهذا بتعريف، وذكرهما معاً، وذلك حتى نعلم الظاهر من الباطن.

وإذا قارناه بالأحاديث التي ذكر فيها الإيمان مفرداً نجد أنها تفسر ذلك ولا تناقضه، فهنا لما ذكرهما معاً فسر حقيقة كل منهما، بأن هذه هي الأعمال الظاهرة، وهذه هي الأعمال الباطنة، لكن في حديث وفد عبد القيس ، قال: {أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله   } مع أنه في حديث جبريل جعلها الركن الأول من أركان الإسلام أي الأعمال الظاهرة وكذلك في حديث الشعب:

{الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله   } جعلها من الإيمان فكيف نجمع بين نصين يدل أحداهما على أن الشهادتين من الإسلام وآخر يدل على أنهما من الإيمان؟

نقول: هذا دليل على أن الإيمان حقيقة مركبة من الظاهر والباطن معاً، لكن إذا قُرِنَا معاً، بُيِّنَت حقيقة الأعمال الظاهرة وأنها تسمى في عرف الشارع إسلاماً، وحقيقة الأعمال الباطنة وأنها تسمى إيماناً، أي مرتبةً من مراتب الدين، فإذا ذكر الإسلام وحده، كما قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ [آل عمران:19] فالدين عند الله فعل هذه الأركان جميعاً الظاهر منها والباطن، وإذا ذكر الإيمان وحده يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء:136] فمعنى آمنوا بالله ورسوله، أي اعملوا الأعمال الظاهرة والباطنة، من أعمال الإيمان.

إذاً: مجموع هذه الأحاديث وهذه الآيات يدل على أن هذه الحقيقة مركبة، فأحياناً تذكر الحقيقة ويذكر الجزء الأول منها (الباطن) ويذكر الجزء الظاهر منها، ويعرف أن الإيمان يتركب منهما معاً، وأحياناً يذكر واحد منهما لأنه يتكلم عنهما على أنهما حقيقة واحدة وأمر واحد لا فرق فيه ولا اختلاف.

فيتضح مذهب أهل السنة والجماعة في هذا إذا قورن بمذاهب المخالفين، فـأهل السنة والجماعة قالوا: الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل الظاهر والباطن.

منقول : للامانة الشرعية

 

 

 

عن admin

x

‎قد يُعجبك أيضاً

(( مُجمَلُ اعتِقادِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ في محبةِ آلِ بَيتِ الرسُولِ الكَريمِ )) .

1- أهلُ السُّنَّةِ يُوجِبونَ مَحبَّةَ أهلِ بَيتِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، ويجعلون ذلك ...

مفتي الجمهورية هناك أوصاف مهمة في اختيار الصديق الصالح ..

مفتي الجمهورية يطالب بمحاسبة الرادود الذي تجاوز على مقام أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

استنكر سماحة مفتي الجمهورية حجة الاسلام والمسلمين الشيخ الدكتور مهدي بن احمد الصميدعي ممتعضاً ومتأسفاً ...