عاجل_ اخبار الدار
الرئيسية / قسم العقيدة / شرح درس توحيد الألوهية و الربوبية و توحيد الأسماء و الصفات

شرح درس توحيد الألوهية و الربوبية و توحيد الأسماء و الصفات

نظرات تدبريّة إلى قول الله تعالى : ( وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون ) .

[ فما يجرى على ألسنة كثيرين ، من أنّ الله أراد من الإنس والجنّ أن يعبدوه ، لأنه خلقهم لأجل عبادته ، فتمرد العصاة منهم على مُراد الله فيه ، غلطٌ فاحشٌ جدا على الله عزّ وجلّ فى صفة مشيئته ، إنّ هذا التعبير يجرى على ألسنتهم دون إدراكٍ منهم لخطورته ، إذ ينسبون إلى الله عزّ وجلّ العجز عن تنفيذ مُراده وهم لا يشعرون ، وسببه الغلط فى فهم اللام في : ( ليعبدون ) ] . مُقتبس من الموضوع .
،،،
دخل التحريف فى مفاهيم الدين على أهل الأديان السابقين ، بدءاً من عبادة الوثن الأكبر الذى هو رمز الإله الأكبر ، فالأوثان التى كانوا ينحتونها رموزاً لما يَعبُدونَ من دون الإله الأكبر ، كصور الأنبياء ، والصالحين ، والملائكة ، والجنّ ، وغير ذلك .
أمّا القرابين من الذبائح فكانوا يذبحونها عن نُصُبِهِم التى ابتدعوها ، ثُمّ دخل التحريف فى مفهوم القرابين حتى صار المشركون والخرافيّون يعتقدون أنّ معبوداتهم من الإله الأكبر وهو الله حتى الآلهة من دونه لَهُم رزقٌ من أرواح الذ بائح أو دمائها أو لحومها . فكان لابُدَّ من بيان فساد هذه العقائد وضلالها وكفرها بحقيقة الرب الخالق المُنزّه عن الحاجة والأكل والشرب وسائر صفات النقص التى تتصف بها المخلوقات ، فأنزل الله عزّ وجلّ فى سورة الذاريات :
( وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون ، ما أُريد منهم من رزق وما أُريد أن يُطعمون ، إنّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين )
ثمّ أنزل بمناسبة بيان ذبائح الهدي فى الحج قوله فى سورة الحج :
( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم … كذلك سخرّها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشّر المُحسنين )
فأبان سبحانه أنّ مَنسَك ذَبائح الهَدي والأضاحي إنّما شُرع للتعبير عن عبادة الله ، ومُناسبةً لذكره وتكبيرِه وتعظيمه ، ولم تُشرَع لفائدة تَصل منها إلى الله سبحانه وتعالى ، إذ لا يَصِلُ إلى الله منها شئٌ .
لكن يصل إلى الله تَقوى قلوبِ العابدين الذين يقدّمون فى سبيل الله ما يُعبّرون به عن إيمانهم بربّهم ، وطاعتهم له ، وبذلِهم فى سبيل مرضاته .

فمن علم الله منه أنّه يقوم بعبادته لربه فى رحلة امتحانه ، بدافع تقوى الله وابتغاء مرضاته ، أو يتطوع بعملٍ من أعمال البّر ، أو بعمل من أعمال الإحسان ، فإنّ الله عزّ وجلّ يُثيبه على عمله ثوابا جزيلاً يوم الدين ، مع ما قد يُكرمه به فى الحياة الدنيا ، وبهذا تكون العبادة لمصلحة العابد ، ولسعادته فى دنياه وآخرته ، وليس للمعبود الرب جلّ جلالُه منها شئ ينفعه أو يزيد فى مُلكه .
وبيانا لهذه الحقيقة نزل النصّ الذى فى سورة ( الذاريات ) وهى سورة مكيّة التنزيل ، ثمّ جاء البيان الواضح الصريح فى النص الذى جاء فى سورة ( الحج ) وهى سورة مدنيّة التنزيل .
لقد أبان النص الذى فى سورة ( الذاريات ) أنّ المطلوب من العباد فى رحلة امتحانه أن يَعبدُوا ربَّهم ، لا أن يقدّموا له رزقا أو طعاما ، لأنه صَمَدٌ غنيَّ ، وهو الذى يرزقهم ويُطعمهم ، وهو القوي المتين بذاته ، الذى لا يحتاج إمداداً من غيره بما يقوَّيه ، كالمخلوقات التى جعلها الرب بحاجة دواماً إلى ما يُمدُّها بأقواتها التى تُبقيها فى الوجود ، كما قال الله عزّ وجلّ فى سورة النساء :
( وكان الله على كلّ شئ مُقيتا )
مُقِيتاً : أي : مُمِدّاً له بالقوت ، وهذا أحد معانى اسم الله .المقيت .

الغاية من خلق الإنس والجنّ الإبتلاء :

لقد أبانت النصوص الكثيرة على سبيل القطع أنّ الله عزّ وجلّ خلق الجنّ والإنس ليبلوهم فى ظروف هذه الحياة الدنيا ، إذ منحهم شروط الإمتحان الأمثل : ( الإرادة الحرّة – القوة الإدراكيّة الكافية لمعرفة الحقّ والباطل والخير والشر والكافية لهذا الإمتحان – الأهواء والشهوات والغرائز ومطالب الحياة المختلفة – العواطف المختلفة الميّالة للخير والشرّ – الوجدان النزّاع للحق والخير والفضيلة – النفس الأمَّارة بالسوء – المسخرّات المطيعة لإرادته بقضاء الله وقدره إلى غير ذلك مما يلزم للإمتحان الأمثل )
والإمتحان يستلزم المراقبة والتسجيل ، ثمّ المُحاسبة ، ثمّ الجزاء ، وقد أخّر الله المحاسبة والجزاء لحياةٍ أخرى بعدَ هذه الحياة ، وجعل لها ظروفاً خاصة يتمُّ بها الحسابُ وفصلُ القضاء ، وتنفيذُ للجزاء .

هذه هى الغاية من الخلقِ ، ونجد الدليل عليها فى نصوص كثيرة منها ما يلى :
(1) قول الله عزّ وجلّ فى سورة المُلك :
( تبارك الذى بيده المُلك وهو على كلّ شئ قدير ، الذى خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسنُ عملا وهو العزيز الغفور ) .
ليبلوكم : أي : لأجل أن يمتحِنكُم ، والإمتحان يستلزم فى حكمة الحكيم المراقبة والتسجيل ، ثمّ المحاسبة وفصل القضاء ، ثمّ الجزاء بالثواب ، أو بالعقاب ، على قَدرِ الكَسب فى رحلة الإبتلاء .
هذه اللام لام التعليل بوضوح ، وقد تحققت إرادة الله فى وضع الإنس والجنّ موضع الإبتلاء ، فلم يبق منها شئ لم يتحقق .

(2) وقول الله عزّ وجلّ فى سورة الكهف :
( إنّا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيّهم أحسنُ عملا ) .
إنّ الإبتلاء يقتضى وضعَ عقبات للممتَحَن ، ومن أهمّ هذه العقبات وضعُ زينات تشتهيها النفوس وترغب فيها على خلاف المطلوب فى الإمتحان ، ليكون الإمتحان كاشفاً ، فالذى تتجهُ إرادته لتحقيق المطلوب فى الإمتحان ، فهو الذى يحقق النجاح ، ويستحقُ الجزاء بالثواب العظيم ، والذى تتجه إرادته لتحقيق مطلوب نفسه وشهوته وهواه ، ولا يكترث للمطلوب منه فى إمتحانه ، يسقط خائبا خاسرا ويستحق الجزاء بالعقاب على مقدار مخالفاته لما كان مطلوبا منه فى امتحانه .
ونلاحظ هنا أنّ إرادة الله عزّ وجلّ فى جعل ما على الأرض زينة لها ، ليَمتحِن الناس بهذه الزينة قد تحققت كاملة ، فلم يبق منها شئٌ لم يتحقق .

(3) وقول الله عزّ وجلّ فى سورة الأنعام :
( وهو الذى جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فى ما آتاكم … إنّ ربك سريع العقاب وإنّه لغفور رحيم )
دلّت هذه الآية على أنّ الله جعل الناس أجيالا مُتتابعة يَخلُفُ بعضُها بعضاً فى سُكنَى الأرض والإنتفاع مما فيها ، وجعلهم متفاضلين فى الخصائص والهبات فرفع بعضهم فوق بعض درجات ليبلوهم فيما آتاهم ، أي : ليمتحنهم .
فاللام فى : ( ليبلوكم ) هى للتعليل ، أي : فالغاية هى الإمتحان وما يستتبع هذا الإمتحان .

(4) وقول الله عزّ وجلّ فى سورة الإنسان :
( إنّا خلقنا الإنسن من نطفة أمشاجٍ نبتليه فجعلنه سميعا بصيرا ، إنّا هديناه السبيل إمّا شاكرا وإمّا كفورا )
ونلاحظ هنا أنّ إرادة الله لتحقيق هذه الغاية قد تمَّت ، فلم يبق منها شئٌ لم يتحقق ، وتوابِعُها سيأتى حتماً تحقيقُها .

وهكذا سائر النصوص التى تبين غاية الإمتحان فى ظروف هذه الحياة الدنيا ، وهى كثيرة مُتكاملة فيما بينها فى بيان العناصر المهمة التى جعلت فى الحياة لإمتحان الناس .

وهنا يتساءل البحث المتفكر عن كلمة كُليّة جامعة تكون عنوانا لكُلّ مطلوب الرب عزّ وجلّ من عباده الممتَحَنين فى رحلة امتحانهم ؟؟
ويأتى الجواب القرآنى على هذا التساؤل بأنّ العنوان الجامع لكلّ مطلوب الرب من عباده فى رحلة امتحانهم هو عبادتُهُم له .
وعبادة الله : يدخل فيها الإيمان به ن وطاعَتُه ، ومجانبةُ معصيته ، والعملُ بوصاياه ، والتقرّبُ إليه بما يُحبُّ من أعمالٍ نعملُها ، أو أشياء نتركها ولو لم يكلفنا ذلك على سبيل الإلزام .
فمن النصوص التى أبانت هذا المطلوب فى رحلة الامتحان ، وهو أن يَعبُدَ الممتًحنون ربهم ما جاء فى سورة الذاريات :
( وما خلقت الجنّ والإنس إلّا ليعبدون )
أي : وما خلقت الجنّ والإنس مُمتحنين فى هذه الحياة الدنيا إلّا لأطلب منهم فى رحلة امتحانهم أن يعبدونى ، فأنا لا أطلب منهم شيئا لمنفعتى ، ولزيادة شئ فى مُلكي ، ولكن أطلب منهم ما يدل على استحقاقهم الخلود فى السعادة ، بدار النعيم الى أعددتها للمُتقين فمن فوقهم وهم الأبرار والمُحسنون ، أماّ من كفر بربه فله الخلود فى دار العذاب .
فاللام فى عبارة ( ليعبدون ) ليست تعليليّة لبيان الغاية من الخلق ، بل هى لبيان المطلوب فى رحلة امتحان المخلوقين لغاية امتحانهم .
ولو كانت هذه اللام للتعليل ، ولبيان الغاية من الخلق ، ما استطاع أحدُ من الجنّ والإنس أن يعصى الله فى شئ ، لأن مُراد الله يستحيل أن يتخلّف .

إنّ مُراد الله هو امتحانهم وهذا قد تمّ وتحقق ، ومُراد الله فى أن يطلب منهم أن يعبدوه قد تحقق ، فقد شرّع لهم الشرائع ، ووضع لهم الأحكام ، ووجه لهم مطلوبه منهم ، وبلّغهم شرائعه وأحكامه ووصاياه فى كُتبه ، وعلى ألسنة رسله .
وأراد الله أن يكشف بالإمتحان إيمان الصادقين ، وإسلام الطائعين المنقادين ، وكفر المجرمين ، ومعاصى الفاسقين ، ومُراد الله فيهم يجرى تحقيقه على الوجه الأمثل ، لا يتخلّف منه شئ .
فكفر الكافرين ، ومعاصي العاصين ، أمور تخالف مطلوب الله منهم ، ولا تخالف مُراد الله فيهم ، إذ مُراد الله امتحانهم ، لكشف أحوالهم الإراديّة ، فى دائرة عبوديتهم الإختياريّة له ، وهذا المُراد يتحقق على الوجه الأمثل بطاعة من يختارون لأنفسهم الطاعة ، ومعصية من يختارون لأنفسهم المعصية .

إنّ معاصى العباد الموضوعين موضع الامتحان لا تُعاند شيئا من إرادة الله فيهم ، إنّما تخالف مطلوب الله منهم ، ضمن إرادته تخييرهم لإمتحانهم ، وقد علمنا أنّ هذه الإرادة الربّانية هى من قسم الإرادة التكوينيّة .
وعلى هذا فإنّ باستطاعتنا أن نقول : إنّ اللام فى عبارة ( ليعبدون ) فى النص الذى جاء فى سورة الذاريات هى (لام) الطلب ، لا (لام) التعليل التى لبيان الغاية من الخلق .

فما يجرى على ألسنة كثيرين ، من أنّ الله أراد من الإنس والجنّ أن يعبدوه ، لأنه خلقهم لأجل عبادته ، فتمرد العصاة منهم على مُراد الله فيه ، غلطٌ فاحشٌ جدا على الله عزّ وجلّ فى صفة مشيئته ، إنّ هذا التعبير يجرى على ألسنتهم دون إدراكٍ منهم لخطورته ، إذ ينسبون إلى الله عزّ وجلّ العجز عن تنفيذ مُراده وهم لا يشعرون ، وسببه الغلط فى فهم اللام في : ( ليعبدون ) .
وقد أدرك شيوخ مفسرى السلف أنّ الآية لا يصح فهمها على ما يتبادر من ظاهرها فهما سطحيّا، متغاضين عن الإشكالات الإعتقاديّة التى تلزم عن هذا الفهم ، فقالوا فيها أقوالا نقلها الطبرى فى تفسيره ن ومعظم هذه الأقول لا يجعل العبادة علّة لمراد الله من خلق الجنّ والإنس …
نقل البقيّة لاحقا إنّ شاء الله وقدّر .
المصدر : ( إبتلاء الإرادة بالإيمان والإسلم والعبادة ) للشيخ عبدالرحمن حبنّكة الميدانى : 46 – 51 .

عن admin

x

‎قد يُعجبك أيضاً

أسباباً لزيادة الإيمان

أسباباً لزيادة الإيمان ١ – ( معرفة الله تعالى حق المعرفة ) فالله عظيم في ...

اليقين والتوكل حقيقتان لهما طعم وثمر ..

قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: ” اليقين أن لا تُرضى الناس بسخط ...

التوكل عند السلف الصالح ..

عن أبي حازم سلمة بن دينار قال: “وجدت الدنيا شيئين: فشيء هو لي، وشيء لغيري، ...