السائل حميد الله كليدي يسأل _ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته شيخنا الفاضل حفظك الله و أحسن إليك سؤال: هل هذا الأثر لدعاء الجماعي بعد الفرائض من الصلوات أو بعد سنن الرواتب، كما يفهم من ظاهر الأثر؟ أم للقصص كما كما يفهم من ترجمة الباب؟
أجاب على السؤآل سماحة مفتي جمهورية العراق الشيخ الدكتور مهدي بن مهدي أحمد الصميدعي ( سدده الله تعالى ) الحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى وسلم على نبيه الأمين وآله الطاهرين وصحابته أجمعين وبعد : موقف السلف من الذكر الجماعي هو عدم الجواز وذلك للآتي: أولاً: أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا حث الناس عليه، ولو أمر به أو حث عليه لنُقل ذلك عنه عليه الصلاة والسلام. وكذلك لم يُنقل عنه الاجتماع للدعاء بعد الصلاة مع أصحابه. قال الشاطبي: الدعاء بهيئة الاجتماع دائماً لم يكن من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم ينقل أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يدعو بعد الخروج من الصلاة هو والمأمومون جميعاً، لا في الفجر، ولا في العصر، ولا في غيرهما من الصلوات، بل قد ثبت عنه أنه كان يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله عقيب الخروج من الصلاة. ثانياً: فعل السلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان، فإنهم قد أنكروا على من فعل هذه البدعة، كما سيأتي ذلك في النصوص الآتية عن عمر وابن مسعود وخباب رضي الله عنهم، ولو لم يكونوا يعدون هذا العمل شيئا مخالفاً للسنة ما أنكروا على فاعله، ولا اشتدوا في الإنكار عليه، فممَّن أنكر من الصحابة هذا العمل: 1 – عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقد روى ابن وضاح بسنده إلى أبي عثمان النهدي قال: كتب عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه إليه: أن ها هنا قوماً يجتمعون، فيدعون للمسلمين وللأمير. فكتب إليه عمر: أقبل وأقبل بهم معك فأقبل. فقال عمر، للبواب: أعِدَّ سوطاً، فلما دخلوا على عمر، أقبل على أميرهم ضرباً بالسوط. فقلت: يا أمير المؤمنين إننا لسنا أولئك الذي يعني، أولئك قوم يأتون من قبل المشرق. 2 – وممن أنكر من الصحابة كذلك الاجتماع للذكر: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وذلك في الكوفة. فعن أبي البختري قال: أخبر رجل ابن مسعود رضي الله عنه أن قوماً يجلسون في المسجد بعد المغرب، فيهم رجل يقول: كبروا الله كذا، وسبحوا الله كذا وكذا، واحمدوه كذا وكذا، واحمدوه كذا وكذا. قال عبد الله: فإذا رأيتهم فعلوا ذلك فأتني، فأخبرني بمجلسهم. فلما جلسوا، أتاه الرجل، فأخبره. فجاء عبد الله بن مسعود، فقال: والذي لا إله غيره، لقد جئتم ببدعة ظلماً، أو قد فضلتم أصحاب محمد علماً. فقال عمرو بن عتبة: نستغفر الله. فقال: عليكم الطريق فالزموه، ولئن أخذتم يميناً وشمالاً لتضلن ضلالاً بعيداً. 3 – وممن أنكر عليهم من الصحابة: خباب بن الأرت، فقد روى ابن وضاح بسند صحيح عن عبد الله بن أبي هذيل العنزي عن عبد الله بن الخباب قال: بينما نحن في المسجد، ونحن جلوس مع قوم نقرأ السجدة ونبكي. فأرسل إلى أبي. فوجدته قد احتجز معه هراوة له. فأقبل عليَّ. فقلت: يا أبت ! مالي مالي ؟! قال: ألم أرك جالساً مع العمالقة (1) ؟ ثم قال: هذا قرن خارجٌ الآن. كما أنكر عامة التابعين رحمهم الله تعالى كذلك هذه البدع ومن جملة ذلك: كراهية الإمام مالك الاجتماع لختم القرآن في ليلة من ليالي رمضان. وكراهيته الدعاء عقب الفراغ من قراءة القرآن بصورة جماعية (2) . وقد نقل الشاطبي في فتاواه كراهية مالك الاجتماع لقراءة الحزب، وقوله: إنه شيء أُحدث، وإن السلف كانوا أرغب للخير، فلو كان خيراً لسبقونا إليه (3) . فهذه النقول، التي أوردناها في هذا الباب، كلها توضح أن السلف – رضي الله عنهم – كانوا لا يرون مشروعية الاجتماع للذكر بالصورة التي أحدثها الخلف. ولله در السلف ! ما كان خير إلا سبقوا إليه، ولا كانت بدعة منكرة إلا كانوا أبعد الناس عنها، محذرين منها. فما من إنسان يخالف هديهم إلا كان تاركاً لسبل الخير، معرضاً عنها، مقتحماً أبواب الضلال. فلو كان الذكر الجماعي مشروعاً أو مستحباً لفعله السلف، ولو فعلوه لنُقل عنهم، ولَوَرَدَ إلينا. فلما لم يُنقل ذلك عنهم، بل نُقل عنهم ما يخالف من الإنكار على فاعله، كما حدث من ابن عمر، وابن مسعود، وغيرهما. دل ذلك على أن هذا العمل غير مشروع أصلاً. ثالثاً: النصوص العامة التي فيها المنع من الابتداع في الدين، كحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) (4) . ومعلوم أن الذكر الجماعي لم يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدل عليه، فلو شرعه النبي صلى الله عليه وسلم لأمر به وحث الناس عليه، ولشاع ذلك عنه صلى الله عليه وسلم بينهم مع قيام المقتضى. رابعاً: أن في القول باستحباب الذكر الجماعي استدراكاً على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث إن المبتدعين له شرعوا أحكاماً لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ[الشورى: 21]. فلما لم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته هذا العمل، دل ذلك على بدعيته. خامساً: ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي: أن في هذا الذكر بصوت واحد تشبهاً بالنصارى الذين يجتمعون في كنائسهم لأداء التراتيل والأناشيد الدينية بصوت واحد. هذا مع كثرة النصوص الشرعية التي وردت في النهي عن التشبه بأهل الكتاب، والأمر بمخالفتهم. سادساً: ومن أدلة المانعين من الذكر الجماعي: أن فيه مفاسد عديدة تقطع بعدم جوازه، لاسيما وأنها تربو على ما له من منافع زعمها المجيزون له، فمن هذه المفاسد: 1- التشويش على المصلين والتالين للقرآن مع ورود النهي عن هذا التشويش، ومنها على سبيل المثال قولـــه صلى الله عليه وسلم: ((ألا إن كلكم مناج ربه. فلا يؤذين بعضكم بعضاً، ولا يرفع بعضكم على بعض في القراءة)) (5) . 2- الخروج عن السمت والوقار الذين يجب على المسلم المحافظة عليهما. 3- أن اعتياد الذكر الجماعي قد يدفع بعض الجهال والعامة إلى الانقطاع عن ذكر الله إذا لم يجدوا من يجتمع معهم لترديد الذكر جماعة كما اعتادوا. 4- أنه قد يحصل من بعض الذاكرين أحياناً تقطيع الآيات حتى يتمكن قصار النَفَس من الترديد مع طوال النَفَس. فهذه أظهر أدلة المانعين من الذكر الجماعي. وقد سقتها – على وجه التفصيل – في حدود ما وقفت عليه، مع تحري الأمانة فيما نقلت. وأما أدلة المجيزين للذكر الجماعي فقد أجاب المانعون عنها بما يلي: أولاً: الجواب على الدليل الأول: وهو احتجاجهم بالنصوص الواردة في مدح الذاكرين بصيغة الجمع، وادعاؤهم أن هذا يقتضي اجتماعهم على الذكر بشكل جماعي، وللجواب على هؤلاء يقال: إن الحث على الذكر بصيغة الجمع ومدح الذاكرين بصيغة الجمع لا يقتضي الدلالة على استحباب أو جواز الذكر الجماعي ولا يلزم منه ذلك. بل غاية ما في هذه النصوص الدلالة على استحباب الذكر لجميع المسلمين، والحث عليه، وسواء كان ذلك على وجه الانفراد، أو الاجتماع، ظاهراً، أو خفياً. ثانياً: الجواب على الدليل الثاني: وهو استدلالهم بعموم الأحاديث الدالة على فضل الاجتماع على ذكر الله ومجالس الذكر. فالجواب على هذا الدليل من وجهين: الوجه الأول: أن ذكر الله ليس مقصوراً على التسبيحات والدعوات، وما يقال باللسان، بل إن ذكر الله سبحانه وتعالى يشمل كل قول وفعل يرضي الله تعالى ومنه مجالس العلم والفقه، والقرآن، ولذلك فإن ما ورد في فضل مجالس الذكر ليس المقصود منها فقط ما ذكروه، بل وغير ذلك. ويدل على ذلك ما ورد في كتاب (الحلية) لأبي نعيم الأصبهاني، بسنده إلى أبي هزان قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: من جلس مجلس ذكر كفر الله عنه بذلك المجلس عشرة مجالس من مجالس الباطل. قال أبو هزان: قلت لعطاء: ما مجلس الذكر ؟ قال: مجلس الحلال والحرام، وكيف تصلي، وكيف تصوم، وكيف تنكح، وكيف تطلق وتبيع وتشتري (6) وقال الحافظ ابن حجر: والمراد بالذكر: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها، مثل: الباقيات الصالحات وهي: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ونحو ذلك. والدعاء بخيري الدنيا والآخرة. ويطلق ذكر الله أيضاً، ويراد به: المواظبة على العمل بما أوجبه، أو ندب إليه: كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم والتنفل بالصلاة (7) . قال العلامة المباركفوري (8) : المراد بالذكر – هنا -: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثار منها مثل الباقيات الصالحات، وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وما يلتحق بها من الحوقلة، والبسملة، والحسبلة، والاستغفار، ونحو ذلك، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة. ويُطلق ذكر الله أيضاً ويُراد به المواظبة على العمل بما أوجبه، أو ندب إليه، كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والتنفل بالصلاة. فإن قال قائل من هؤلاء: إن الذكر بالألفاظ الواردة نوع من أنواع الذكر اللساني يشمله أحاديث فضل مجالس الذكر فدل ذلك على استحباب الاجتماع لأجل هذا الذكر اللساني. فالرد عليه بالوجه الثاني: أن هذه الأحاديث لم تدل على الذكر الجماعي واستحبابه، وإنما هي دالة على استحباب الاجتماع على ذكر الله. وهناك فرق كبير بين هذا وذاك. فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله، ولكن على الوجه المشروع الذي فهمه الصحابة وعملوا به، فقد كانوا يجتمعون للذكر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم يقرأ، والناس يستمعون. وكان عمر يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا. فيقرأ وهم يستمعون لقراءته. وقال الطرطوشي: هذه الآثار (9) تقتضي جواز الاجتماع لقراءة القرآن الكريم على معنى الدرس له والتعلم والمذاكرة وذلك يكون بأن يقرأ المتعلم على المعلم، أو يقرأ المعلم على المتعلم، أو يتساويا في العلم، فيقرأ أحدهما على الآخر على وجه المذاكرة والمدارسة هكذا يكون التعليم والتعلم، دون القراءة معاً. وجملة الأمر أن هذه الآثار عامة في قراءة الجماعة معاً على مذهب الإدارة، وفي قراءة الجماعة على المقرئ… ومعلوم من لسان العرب أنهم لو رأوا جماعة قد اجتمعوا لقراءة القرآن على أستاذهم. ورجل واحد يقرأ القرآن، لجاز أن يقولوا: هؤلاء جماعة يدرسون العلم، ويقرؤون العلم والحديث. وإن كان القارئ واحد (10) . ثالثاً: وأما الآثار التي استدلوا بها عن عمر رضي الله عنه، وميمونة رضي الله عنها. فيجاب عنها من ثلاثة وجوه: الأول: أنها غير صريحة في التكبير الجماعي بالشكل الذي يدعو إليه من يقولون بمشروعية الذكر الجماعي، بل غاية ما فيها أن الناس تأسَّوا بعمر رضي الله عنه فكبروا مثله وبأصوات مرتفعة، وبسبب تداخل واختلاط الأصوات مع كثرة الحجيج فقد ارتجت منى بالتكبير. ولا يفهم منه أن عمر رضي الله عنه كان يكبر ثم يسكت حتى يرددوا خلفه بصوت رجل واحد. وإلا فإن أئمة المذاهب المتبوعة لم ينقل عنهم الإقرار للذكر والتسبيح والتكبير بصوت واحد فلو فهموا منه ما فهمه دعاة الذكر الجماعي لقالوا به. ولكنهم فهموا هذه الآثار – والله أعلم – على ما سبق ذكره في أول هذا الوجه. وأما أثر ميمونة فيقال فيه ما قيل في أثر عمر. وليس فيه إلا تكبير النسوة مع الرجال في المسجد. الثاني: أن عمر رضي الله عنه قد ثبت عنه أنه عاقب من اجتمعوا للدعاء والذكر وغيره كما في الأثر الذي رواه ابن وضاح. وقد سبق إيراده في بيان حجج المانعين من الذكر الجماعي وأدلتهم. الثالث: أن مثل هذا التكبير من عمر والترديد من الناس لم ينقل في غير أيام منى، ووقت الحج. ولو جاز تعميم الحكم، والقول بجواز الذكر الجماعي في المساجد والبيوت، وبعد الصلوات وفي الأوقات المختلفة، لكان في هذا مخالفة واضحة للآثار السابقة عن عمر، وابن مسعود، وخباب، وغيرهم رضي الله عنهم جميعاً. رابعاً: وأما الأمر الرابع الذي استدلوا به: وهو دعواهم أن للذكر الجماعي مصالح عديدة، فيجاب عنه بما يأتي (11) : 1 – قولهم إن فيه تعاوناً على البر والتقوى باطل، يرده فعل النبي صلى الله عليه وسلم. فإن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أنزل عليه وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2] وكذلك فعله عليه السلام، ولو كان الاجتماع للدعاء والذكر بعد الصلاة جهراً لمن شهد الصلاة، وفي غير ذلك من الأوقات. لو كان هذا كله من باب التعاون على البر والتقوى لكان أول سابق إليه هو النبي عليه السلام ولفاز بالسبق إليه أصحابه رضوان الله عليهم، ومن المعلوم أنهم لم ينقل عنهم ذلك قطعاً. وكذب من ادعى عليهم شيئا من ذلك. 2 – وأما قولهم إن الذكر الجماعي أقرب للإجابة. فيجاب عليهم بأن هذه العلة كانت موجودة في زمانه عليه السلام بل هو صلى الله عليه وسلم أعظم من تجاب دعوته ولا شك في ذلك، فهو عليه السلام كان أحق بأن يفعل ذلك ويدعو مع أصحابه – جماعة – خمس مرات في اليوم والليلة. ولكن رغم ذلك لم ينقل عنه أنه فعل ذلك. وبالتالي يصبح من الواجب الحكم على هذا الفعل بأنه بدعة بناء على ما ثبت من فعله عليه الصلاة والسلام، وبناء على الأدلة الكثيرة في بيان وجوب طاعته والاهتداء بهديه، والاقتداء بسنته. 3 – وأما قولهم إن الذكر الجماعي أبعد عن اللحن في الدعاء والذكر ولاسيما للعوام، فيجاب عليهم بما يلي: أ – أنه ليس من شروط صحة الدعاء عدم اللحن فيه، بل يشترط الإخلاص وصدق التوجه ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وقد كان الصحابة متوافرين بعد انتشار الفتوحات، وظهور العجمة في الألسنة بعد أن كثر العجم الداخلون في الإسلام وشاع بين الناس اللحن في الكلام، ومع ذلك لم ينقل عن الصحابة شيء من هذا الذكر الجماعي. ب – أن هذا اللحن الذي زعموه، والموجود في الدعاء، يوجد أيضاً من هؤلاء العوام في قراءة القرآن، وفي الصلاة وفي غيرها من شعائر الدين، وكان الجدير بهؤلاء أن يعلموهم بعد الصلوات تلك الأحكام، لأنها أمور واجب تعلمها على المسلم، أما الدعاء فهو أمر مستحب. خامساً: قولهم: إن هذا عمل الناس، وعليه الجماعة، وقد اجتمع عليه أكثر الناس. فيجاب عليهم بأن هذا احتجاج بالناس على الشرع، وهذا باطل. بل يحتج بالشرع وبالدليل على الناس، وعلى الرجال، وأما اتباع عامة الناس وأغلبهم في أمور الدين فهذا باب ضلال، وقد ذمه الله عز وجل في كتابه فقال: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ[الأنعام: 116]. ولسنا متعبَّدين بطاعة الناس واتباعهم، بل بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه. وقد جاء عن أبي علي بن شاذان بسند يرفعه إلى أبي عبد الله بن إسحاق الجعفري قال: كان عبد الله بن الحسن – يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب يكثر الجلوس إلى ربيعة فتذاكروا يوماً. فقال رجل كان في المجلس: ليس العمل على هذا (أي أن عمل العوام يخالف ذلك). فقال عبد الله: أرأيت إن كثر الجهال حتى يكونوا هم الحكام، أفهم الحجة على السنة؟ فقال ربيعة: أشهد أن هذا كلام أبناء الأنبياء فبيَّن عبد الله ابن الحسن أن كثرة الجهال والمبتدعين، وتسلطهم على الناس، ونشرهم لبدعتهم، ليس حجة على السنة وعلى الشرع، ولا ينبغي ولا يجوز أن يعارض شرع الله، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بفعل أحد من الناس، كائناً من كان. سادساً: دعواهم أن الذكر الجماعي وسيلة لها حكم غايتها، وغاية الذكر الجماعي عبادة الله. فيجاب عليهم بما يلي: 1 – أن هذه القاعدة ليست قاعدة مطردة على الدوام، بل إن لها موارد مقصورة عليها، فهذه القاعدة مقصورة على ما ورد في الشرع سواء كان وسيلة أم غاية. ومما يدل على ذلك أن الشيء قد يكون مباحاً، بل واجباً، ومع ذلك تكون وسيلته مكروهة أو محرمة. كمن يتوصل إلى تحصيل ماء الوضوء عن طريق الغصب أو السرقة. 2 – يدلك على هذا كذلك فعل السلف الصالح، فإنهم – رضي الله عنهم – كانوا يتحرون في أمور العبادات كلها تحرياً شديداً من غير التفات إلى الفرق بين ما يسمى وسائل وغايات. سابعاً: وأما قولهم: إن الآثار المانعة للذكر الجماعي تعارض الأحاديث الكثيرة التي تثـبت مشروعية الذكر الجماعي (كذا زعموا)، فتُقدَّم الأحاديث عليها. فيجاب عليهم بأنه لا تعارض بين هذه الآثار وتلك الأحاديث كما سبق، بل إن تلك الأحاديث ينبغي أن تفهم وتفسر في ضوء فهم السلف الصالح لها، وهذه الآثار الواردة عن السلف تفسر جانباً من هذه الأحاديث، كما سبق وأن ذكرناه. وأما ما رد به السيوطي أثر ابن مسعود بأنه لا يعرف له سند، فمردود بأنه أثر صحيح بمجموع طرقه رواه الدارمي في سننه، وابن وضاح في البدع (12) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ[الأنعام:116]. والعجب أن الإمام السيوطي – رحمه الله – ذكر هذا في كتابه (الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع). وأما قول الدكتور الزحيلي (13) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ[الأنعام:116]: فلا يصح القول بتبديع الدعاء الجماعي بعد الصلاة… إلخ. فيقال: قوله: (لا يصح). هذه كلمة شرعية، وإطلاق لحكم شرعي، وهذا يقتضي عدم الجواز. فمن أين أتى بهذا الحكم ؟ ومَنْ سبقه بهذا من أهل العلم المعتبرين ؟ ولا دليل عليه لا من كتاب ولا من سنة. ثم قوله: وجرى العمل بين المتأخرين بالاجتماع على الدعاء أهـ. فيقال له: ومتى كان اجتماع الناس على عملٍ ما قاضياً على شرع الله عز وجل ؟ فالحجة إنما هي في النصوص وفي عمل الرسول صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام، لا في عمل المتأخرين. ثم قوله في إنكار ابن مسعود على المجتمعين على الذكر: والواقع أن هذا الإنكار ليس بسبب اجتماعهم على الذكر. وإنما لشذوذهم وادعائهم أنهم أشد اجتهاداً في الدين من غيرهم أهـ. فيقال له: ما دليلك على هذا الكلام ؟! وكل من روى هذه الواقعة فهم منها إنكار ابن مسعود للذكر الجماعي، ومثله إنكار خباب بن الأرت على ولده، وهل كان هناك شذوذ عند هؤلاء المذكورين غير اجتماعهم على الذكر الجماعي ؟ إذ لا يمكن أن يقال إن شذوذهم كان بسبب أنهم يذكرون الله كثيراً. ومن هنا يتبين لك ضعف استدلال المجيزين للذكر الجماعي بالأدلة التي استدلوا بها، وأنها لا تنهض لهم بما أرادوا، وأن الحجة قائمة عليهم بحمد الله تعالى. وكذلك يتبين لك قوة أدلة المانعين من الذكر الجماعي.
المكتب العلمي للدراسات والبحوث / قسم الفتوى
الأحد 21 ذي القعدجة 1441 هجرية 12 تموز 2020