أيها الإخوة المؤمنون، وإن من البيان والنصح الذي بلغه وبيَّنه وقدَّمه سيد الخلق محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأمته – ما ستواجهه في قادم أيامها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبخاصة ما يتعلق بالفتن وأنواع الشرور التي تضر بها، وتؤدي بها إلى أحوال سيئة، فقد أبدى وأعاد عليه الصلاة والسلام في هذا الباب، فما بقي لمعتذر عذر، ولا لمتحجج حجة، ومن هذه البيانات وأساليب التوجيه – مما أخبره الله جل وعلا به من غيب سيكون في قادم الأزمان بعد عصره، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام – ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت))؛ هذا حديث ثابت عنه عليه الصلاة والسلام؛ رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، والبغوي في شرح السنة وغيرهم، وجاء من طرق متعددة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وثوبان رضي الله عنه، وهذا الحديث العظيم هو نوع من الغيب الذي أُخْبِره نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من ربه جل وعلا، وما سيكون في قادم الأزمان من بعد عصره عليه الصلاة والسلام؛ حيث قال: ((ولكنكم غثاء كغثاء السيل))؛ يعني: فيما يكون بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم، وهذا الحديث العظيم الغرض منه والقصد فيه أن تكون الأمة على ما أراد الله جل وعلا جميعًا؛ سواء كان ذلك بدولها وحكوماتها، أو أفرادها وشعوبها، ومعنى أن يكونوا على ما أراد الله جل وعلا: أن يكون همهم وقصدهم عبادته سبحانه، وإرادة وجهه والدار الآخرة، وألا يتعلقوا بالدنيا لذاتها، وإنما يجعلوها قنطرة إلى ما عند الله جل وعلا من الرضوان وحسن العقبى، وأن يحذروا مما يكون من أعدائهم، فإن أعداء هذه الأمة لن يزالوا حريصين على إلحاق الأضرار بها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (يوشك الأمم)؛ يعني: أن هذا الأمر قريب أن يكون؛ لأن هذا الفعل “يوشك” كما يسميه علماء اللغة من أفعال المقاربة؛ أي: يقرب أن يكون من الأمم، والأمم المعنيَّة هنا هي أمم الكفر والضلالة.
(أن تَداعى عليكم)؛ بمعنى: أن يدعو بعضهم بعضًا لأجل الاعتداء عليكم ومقاتلتكم، وسلب ما ملكتموه من ديار وأموال، وما عندكم من خيرات، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: (كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)؛ بمعنى: أنهم يشاهدون ما في أيديكم من أنواع الخير الذي يَفيئه الله عليكم، وهذا أمر مشاهد؛ فإن أراضي أمة الإسلام اليوم فيها من أنواع الخيرات والبركات، وما أخرجه الله لهم من باطن الأرض، وما أفاءته الزروع والثمار، وما جرت به الأنهار، وما هو على حافَات البحار من أنواع الخير – ما يُحقق الاكتفاء الذاتي لهذه الأمة لو أحسنت إدارة شؤونها، وما في أيديها من هذه النعم والخيرات، فقوله عليه الصلاة والسلام: (كما تداعى الأكلة)؛ يعني بذلك: الأكلة جمع آكل، وهو أنهم يشاهدون بما أيدي المسلمين، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، حينما يجتمع الآكلون على القصعة، وهي الإناء والوعاء الكبير المليء بالطعام الذي لا يُمنع منه أحد؛ لكثرته ووفرته، ولعدم وجود مانع يمنع مريد الأكل أن يأكل ويشارك في ذلك، فهذا يصور به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يكون من السطوة والهجوم الذي يكون من أمم الضلال والتهور الذي يدفعهم لأن يكونوا مندفعين إلى أن يهجموا، وإلى أن يتسلطوا على المسلمين؛ طمعًا فيما في أيديهم فيما أفاءه الله جل وعلا من أنواع الخيرات، والمقصود أنهم حينما يتداعون إلى ذلك بلا مانع ولا منازع، فيأكلون من ذلك عفوًا وصفوًا، لا مُكدر عليهم فيما ينالون ومما يأخذون، ولذلك فإن هذا الوصف يوضح أيضًا أنهم حينما يتداعون إلى هذا الأمر، فإنهم يطلبون أيسر السبل التي يأخذون من خلالها ما بأيدي المسلمين؛ بلا ضرر يلحقهم، ولا شر يصيبهم، ولا غير ذلك مما يفقدونه من أنفسهم، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرر في هذا الحديث قُرب تسلُّط فِرَق الكفر والضلال؛ حيث يدعو بعضهم بعضًا مع اختلاف مِللهم وتبايُنِ مشاربهم وعقائدهم، لكنهم يجتمعون جميعًا على حرب أمة الإسلام والطمع فيما أفاء الله عليهم؛ ليكسروا شوكة المسلمين، ويغلبوهم، ويأخذوا ما ملَّكهم الله إياه من الديار، وما أفاء عليهم من الخيرات، وحينئذ يأتي السؤال من الصحابة جزاهم الله خيرًا، ورضي عنهم؛ ليُبينوا حقيقة هذا الأمر وهذا الحال الذي سيكون قطعًا بخبر مَن لا ينطق عن الهوى؛ قال قائل: “ومن قلة نحن يومئذ؟”، هل تصير لنا هذه الحال بسبب قلة أعدادنا وكثرة أعداد أعدائنا؟ فإذا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يجيب إجابة، وكأنما يطلعه الله على ما سيكون من حال أمة المسلمين؛ حيث يتزايد عددها كما وقع في عصور سالفة لأمة الإسلام، حينما تسلط عليهم الأعداء كانوا عشرات الملايين، ولا يزال عددهم يزيد إلى أن يبلغوا المليار أو يزيد على ذلك، ولذا قال عليه الصلاة والسلام: (أنتم يومئذ كثير)؛ أي: عدد كبير، وليس فيكم قلة في أعدادكم، (ولكنكم غثاء كغثاء السيل)؛ قال العلماء: غثاء السيل هو ما يحمله السيل من زبد ووسخ، ونحو ذلك مما يقذف به السيل حينما يسير في الوادي، فيحمل الأعشاب اليابسة، ونحو ذلك مما يكون من المخلفات، وفي هذا تشبيه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن هذا العدد يفتقد النوعية والجودة، يفتقد الإنتاج، يفتقد الآثار المباركة؛ وذلك لقلة شجاعتهم، ولدناءة آمالهم، ولتعلُّقهم بتوافه الأمور، فلا يلتفتون إلى معاليها ولا إلى شريفها، وإنما هِمم متدنية وأفعال غير منتجة، ولذلك يصيرون كمثل هذه الحال: “غثاء كغثاء السيل”.
حديث صحيح، أخرجه ابن نصر في “قيام الليل” (ص 74)، وابن حبان في صحيحه (ج 1 رقم 122) بسند صحيح، وقال المنذري في “الترغيب” (1 / 40): “رواه الطبراني في الكبير بإسناد جيد”.
أمره الله تبارك وتعالى أن يبين هذه الحقيقة للناس، فقال في آخر سورة الكهف [آية:110]: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ}، وعلى هذا كان لكلامه صلى الله عليه وسلم صفة العصمة من الخطأ؛ لأنه كما وصفه ربه عز وجل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ} [النجم:3-4]، وليس هذا الوحي محصورًا بالأحكام الشرعية فقط، بل يشمل نواحي أخرى من الشريعة؛ منها: الأمور الغيبية، فهو صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يعلم الغيب كما قال فيما حكاه الله عنه: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ * إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:187]، فإن الله تعالى يُطلِعه على بعض المغيبات، وهذا صريح فى قول الله تبارك وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا. إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ} [الجن:26-27]، وقال: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ} [البقرة من الآية:255] .
فالذي يجب اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الغيب بنفسه، ولكن الله تعالى يُعلِمه ببعض الأمور المغيبة عنا، ثم هو صلى الله تعالى عليه وسلم يُظهِرنا على ذلك بطريق الكتاب والسنة، وما نعلمه من تفصيلات أمور الآخرة من الحشر والجنة والنار ومن عالم الملائكة والجن ونحو ذلك مما وراء المادة، وما كان وما سيكون؛ ليس هو إلا من الأمور الغيبية التي أظهر الله تعالى نبيه عليها، ثم بلَّغنا إياها، فكيف يصح بعد هذا أن يرتاب مسلم في حديثه لأنه يخبر عن الغيب؟!
فتأمل كيف اتفق صريح قوله في هذا الحديث: «لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» مع ما أشار إليه الحديث الأول من هذا المعنى، الذى دل عليه كتاب الله تعالى أيضًا، وهو قوله: {إِنَّ اللَّـهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد من الآية:11] .
مكتب رعاية العلماء / قسم الإرشاد
الأربعاء 27 جمادي الأولى 1441 هجرية 22 كانون ثاني 2020