عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ – رضي الله عنه – قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و سلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ. قَالَ: فَقَالَ: يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقُّ العبادِ عَلَى الله؟ قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لاَ يُعَذِّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَفَلاَ أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: «لاَ تُبَشِّرْهُمْ. فَيَتَّكِلُوا».
وفي حديث أنس – رضي الله عنه -قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلاَّ حَرَّمَهُ الله عَلَى النَّارِ» قَالَ معاذ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهَا النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: «إِذا يَتَّكِلُوا» فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ، تَأَثُّما.
أولاً: ترجمة راوي الحديث:
هو معاذ بن جبل بن أوس الأنصاري الخزرجي – رضي الله عنه – وأرضاه، شهد العقبة الثانية، وغزوة بدر وما بعدها، آخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – وأرضاه، وكان عمره حين أسلم ثماني عشرة سنة، هو أحد الأربعة الذين قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم خذوا القرآن عن أربعة، وهو من قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- ” أعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل” فهو من علماء الأنصار وممن يفتون على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولذا بعثه النبي -صلى الله عليه وسلم- في آخر حياته إلى اليمن داعيا ومعلما وقاضيا وقال له حين ودَّعه: ” حفظك الله من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك ومن فوقك ومن تحتك، ودرأ عنك شرور الجن والإنس” وعاد في خلافة أبي بكر وولاه عمر على الشام بعد أبي عبيدة، ثم مات من عامه في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة عن أربع وثلاثين سنة – رضي الله عنه -وأرضاه. [انظر أسد الغابة (5 /194) وانظر الإصابة (10/219)].
وأما أنس بن مالك – رضي الله عنه – فتقدمت ترجمته في الحديث الثالث من كتاب الإيمان.
ثانياً: تخريج الحديثين:
أما حديث معاذ فأخرجه مسلم، حديث (30)، وأخرجه البخاري في “كتاب التوحيد”
“باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى” حديث
(7373)، وأخرجه أبو داود مختصرا في “كتاب الجهاد” “باب في الرجل يسمي
دابته” حديث (2856)، وأخرجه الترمذي، في “كتاب الإيمان”
“باب ما جاء في افتراق هذه الأمة” حديث (2643)، وأخرجه ابن ماجة في “كتاب
الزهد” “باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة” حديث (4296).
وأما حديث أنس فأخرجه مسلم، حديث (32)، وأخرجه البخاري في “كتاب العلم” “باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألا يفهموا” حديث (128).
ثالثاً: شرح ألفاظ الحديثين:
(كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللّهِ): يروى: رِدْف بسكون الدال من غير ياء وبكسر الراء، ويُروى: رديف بفتح الراء وكسر الدال وياء بعدها، وكلاهما لغتان صحيحتان، ويقصد بهما الراكب خلف الراكب، فمعاذ ردف النبي – صلى الله عليه وسلم- أي راكب خلفه، وأكثر ما يستعمل الإرداف في البعير، لكن معاذ كان رديفا للنبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار اسمه (عفير) وفي هذا بيان جواز الإرداف على الحمار وأيضا تسمية الدابة.
(يَا مُعَاذُ): نداء، وجاء في رواية أخرى في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كرر عليه النداء يقول له: “يا معاذ بن جبل” يقول معاذ قلت: “لبيك يا رسول الله وسعديك” ثم سار ساعة ثم قال: “يا معاذ بن جبل” قلت:”لبيك يا رسول الله وسعديك” وفي هذا حسن تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث شوقه لما يقول حين ناداه ثم سكت قليلا ثم ناداه ثم أخبره، وفي هذا تشويق له وهكذا ينبغي للمعلم أن يستخدم الأسلوب الذي يستدعي انتباه المتعلم، وقوله (لبيك وسعديك) اللب بفتح اللام معناه الإجابة، والسعد المساعدة والإسعاد كأنه قال: لباً لك وإسعاداً لك، و ثناهما لبيك وسعديك للتأكيد والتكثير أي إجابة بعد إجابة وإسعادا بعد إسعاد.
(لاَ تُبَشِّرْهُمْ. فَيَتَّكِلُوا): أي لا تبشرهم فيعتمدوا على ذلك إذا أخبرتهم.
(تَأَثُّما): أي خشية الوقوع في الإثم، وهو إثم كتمان العلم.
رابعاً: من فوائد الحديثين:
الفائدة الأولى: حديث معاذ فيه بيان عظم كلمة التوحيد وبيان فضلها، حيث بين النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث حقين وكلاهما مرتبط بكلمة التوحيد:
الأول: حق الله على العباد:
وهو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، فلا يكفي فقط العبادة لأن الكفار كانوا يصرفون شيئا من العبادة لله تعالى لكنهم يشركون معه غيره، ولذلك لابد من عبادة الله تعالى مع عدم إشراك غيره معه. وهذا سمي حقاً، لأنه حتم لازم واجب على العبد تجاه ربه جل وعلا.
والثاني: حق العباد على الله تعالى:
وهو أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، وهذا
فضل عظيم من الكريم جل جلاله، ولماذا سمي هذا حقا على الله تعالى مع
إيماننا بأنه لا ملزم له سبحانه ولا موجب عليه فهو لا شك ليس لزوم وإيجاب،
ولذا اختلف في معنى ذلك على أقوال أظهرها قولان:
قيل: سمي حقا من باب المقابلة، لما قيل للأول حق قيل لهذا حق أيضا وهذا من فضل الله تعالى ولطفه على عباده جل وعلا.
وقيل: إن معنى الحق هنا أي المتحقق الثابت والخير والثواب الواقع الذي لا تردد معه.
الفائدة الثانية: الحديث دليل على فضل معاذ وقرب منزلته حيث تشرف بإرداف النبي -صلى الله عليه وسلم- له، وأيضا تخصيصه بهذا العلم.
الحديث فيه أدب معاذ – رضي الله عنه -مع معلمه فهو حين سُئِل قال الله ورسوله أعلم، وحين علم استأذن من النبي -صلى الله عليه وسلم-أن يعلم الناس ليستبشروا، وهكذا ينبغي لطالب العلم مع شيخه، وكذلك في الحديث حسن تعليم النبي -صلى الله عليه وسلم- ففي تعليمه لمعاذ تكرار وسكوت واستفهام وكل ذلك ليشد انتباه المتعلم ويشوقه ويكون أدعى في رسوخ العلم.
الفائدة الثالثة: الحديث فيه تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث كانت دابته التي يركب عليها حماراً وهذا من تقلله -صلى الله عليه وسلم-وبساطة عيشه.
الفائدة الرابعة: قول معاذ حين سأله النبي -صلى الله عليه وسلم- “الله ورسوله أعلم” فيه جواز التشريك بالواو بين الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم-في العلم، فالنبي -صلى الله عليه وسلم-لم ينكر على معاذ قوله ذلك، فكيف نجمع بين هذا و بين حديث ابن عباس أن رجلا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله وشئت فقال النبي: “أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده” رواه أحمد والبخاري في الأدب الكبير، والنسائي في السنن الكبرى، وصحح إسناده العراقي (في تخريج الإحياء 3 /200) وكذلك أحمد شاكر (في مسند الإمام أحمد 3 /203) وصححه الألباني (في صحيح الأدب المفرد 601).
• فظاهر الحديث التشريك بالواو بين الله تعالى ورسوله في المشيئة وأنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه لما في ذلك من الشرك.
فالجواب: أنه فرق بين المسائل الشرعية، و المسائل القدرية، فالمسائل الشرعية كقول (الله ورسوله أعلم) لا بأس بالتشريك بالواو فيها لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتكلم عن الله عز و جل. فالعلم الذي يأتي به هو ما أوحاه الله إليه، بخلاف المسائل القدرية كالمشيئة فإنه لا يشرك أحد مع الله، لأن الإشراك فيه مساواة كأنه يساوي مشيئة الله بمشيئة المخلوق رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهذا شرك فإن اعتقد أن المخلوق أقل من الخالق فهو شرك أصغر، وإن اعتقد أن المخلوق أعظم من الخالق فهو شرك أكبر.
وليتضح المقال نبينه من وجه آخر، إذا تأملنا ما عند النبي -صلى الله عليه وسلم- من علم نجد علمه وحي يتميز به عن بقية المخلوقين، وهذا الوحي من الله جل وعلا فالمصدر واحد فلا يضرك التشريك حينئذ بالواو لأنه في المسائل الشرعية والشرع من الله جل وعلا، وإذا تأملنا ما عند النبي -صلى الله عليه وسلم- من المشيئة نجد مشيئته كمشيئة جميع الخلق لا تمايز فيها، وأما مشيئة الله تعالى فهي مشيئة مطلقة لا يمكن التشريك معها إذ في التشريك معها مساواة بها والله أعلم وأحكم.
الفائدة الخامسة: حديث الباب وكذلك ما تقدم من الأحاديث وكذلك حديث أبي هريرة القادم أحاديث فيها بشارات عظيمة لهذه الأمة، ولكنه إذا ساء فهم هذه الأحاديث حصل عند العبد خلل وإرجاء، فمن اعتمد على ظاهرها فقط كان على عقيدة المرجئة، الذين يقولون من جاء بكلمة التوحيد فلا يضره أي عمل ولو كان هذا العمل من نواقض الإسلام، ولذا نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا أن يبشر الناس لئلا يفهموه خطأ فيتوكلوا على هذا ويتركوا العمل وقال:” لاَ تُبَشِّرْهُمْ. فَيَتَّكِلُوا ” فإذا خشي إساءة فهم الحديث عند قوم فإن الأفضل ألا يقال لهم ولذا بوَّب البخاري على حديث أنس في الباب بـ”باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية ألا يفهموا”، وفي أخبار الصحابة ما يدل على أنهم لم يكونوا يحدثون بمثل هذا عند عوام الناس الذين يخشون سوء فهمهم، ثم هم يخبرون بها خشية كتمان العلم كما فعل معاذ عند موته فاجتهد وأخبر به لأنه يعلم أنه لا يمكن أن ينفرد بهذا الحديث عن الأمة، وفي مثل هذا يقول النووي: “قال القاضي عياض رحمه الله: فيه دليل على أنه كتم ما خشي الضرر فيه والفتنة مما لا يحتمله عقل كل أحد وذلك فيما ليس تحته عمل ولا فيه حد من حدود الشريعة، قال: ومثل هذا عن الصحابة – رضي الله عنهم -كثير في ترك الحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعو له ضرورة، أو لا تحمله عقول العامة، أو خشية مضرته على قائله أو سامعه” [انظر شرح النووي لمسلم حديث (9)].
و قال ابن حجر: “قال ابن رجب في شرحه لأوائل البخاري: قال العلماء يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهادا في العمل وخشية الله عز وجل، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالا على ظاهر هذا الخبر، وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسنة أن بعض عصاة الموحدين يدخلون النار، فعلى هذا يجب الجمع بين الأمرين” [انظر الفتح، باب من جاهد نفسه في طاعة الله، حديث (6500)]. إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان) .
مكتب رعاية العلماء / قسم الإرشاد