” أثر الاستغفار على الدعاة إلى الله تعالى وثمراته ”
إن التزام الدعاة إلى الله تعالى بالاستغفار له العديد من الآثار الطيبة، والثمرات النافعة، ومن أبرز ذلك :
1/ الالتزام بمنهج الأنبياء والصالحين :
إن الأنبياء كانوا أشد الناس اجتهاداً في العبادة لما أعطاهم الله تعالى من المعرفة (فتح الباري) إذ كلما كان العبد أعرف بربه كان أتقى له وأكثر تعبداً، فهم عليهم السَّلام دائبون في شكره معترفون له بالتقصير(فتح الباري) فهم في كل حال من أحوالهم يلزمون الاستغفار ويداومون عليه مع أنهم معصومون من الذنوب كبيرة أو صغيرة، كل ذلك مبالغة منهم عليهم السلام في شكر ربهم على نعمه واعترافا منهم بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى (فتح الباري) .
وعلى هذا المنهج الذي سار عليه الأنبياء والرسل عليهم السَّلام أخذ الأولياء والصالحون من أممهم يسيرون عليه مقتدين بأولئك الأنبياء والرسل عليهم السَّلام .
فقد أمر الله أنبياءه ورسله بالاستغفار فداوموا عليه ولازموه وعلموا أممهم الاستغفار ودعوهم إليه .
وهذا هود عليه السَّلام يدعو قومه إلى الاستغفار قائلاً : ” وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ” [هود: 52] .
وكذلك نادى صالح عليه السَّلام قومه قائلاً : ” فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ” [هود: 61] .
وقال شعيب لقومه : ” وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ” [هود: 90] .
وقال نوح عليه السَّلام لقومه : ” فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا ” [نوح: 10] .
ولأهمية الاقتداء أمر الله عز وجلَّ نبيه أن يلزم نهج الأنبياء السابقين قال تعالى : ” أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ” [الأنعام: 90]] .
قال ابن كثير رحمه الله : (قال تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم : ” أُولَئِكَ ” يعني الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه ” الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ” أي : هم أهل الهداية لا غيرهم ” فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ” أي : اقتد واتبع ، وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى الله عليه وسلم ، فأمته تبع له فيما يشرعه لهم ويأمرهم به) (تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير) .
وأمر الله تعالى سيد الأنبياء وأفضل ولد آدم أجمعين بالاستغفار فقال : ” فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ” [غافر: 55] .
وقال تعالى : ” فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ” [محمد: 19] قال تعالى : ” فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ” [النصر: 3] .
كما أعلن صلى الله عليه وسلم لقومه فوائد الاستغفار ودعاهم إليها في أحاديثه الشريفة في مثل قوله صلى الله عليه وسلم : «إنه ليَغانُ على قلبي , وإني لأستغفر الله، في اليوم، مائة مرة» (أخرجه مسلم) .
1- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : «إن كنَّا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلَّس مائة مرة: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور» (أخرجه أبو داود، والترمذي ، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود) .
2- وروي عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفاره (أخرجه الطبراني في المعجم الوسيط، وابن جرير في تفسيره ، وابن مردويه في تفسير ابن كثير) .
3 – ويروى عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه : ( يا بني، عود لسانك : اللهم اغفر لي، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً) (الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، السيوطي) .
4 – وقال أبو هريرة رضى الله عنه : (إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم ألف مرة وذلك على قدر ديتي) (حلية الأولياء: الأصبهاني) .
5- وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحيي الليل صلاة، ثم يقول : «يا نافع، أسحرنا ؟ فيقول : لا، فيعاود الصلاة، ثم يقول : يا نافع أسحرنا ؟ فأقول نعم فيقعد فيستغفر ويدعو حتى يصبح» (أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وأبو نعيم في حلية الأولياء، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه الطبراني ورجاله ثقات رجال الصحيح غير أسد بن موسى وهو ثقة) .
6- وقال الحسن رحمه الله : (أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم وفي طريقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم، فإنكم ما تدرون متى تنزل البركة) (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان) .
7-وروي عن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلَّا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : رب أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي فنظرت فإذا ابن مسعود رضى الله عنه ( أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد :رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي وهو ضعيف) .
8- وقال أبو المنهال : (ما جاور عبد في قبره من جار أحب إليه من استغفار كثير) (الزهد ، الإمام أحمد بن حنبل) .
9- وقال أبو قتادة : (إن هذا القرآن يدلكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم : فالذنوب، وأما دواؤكم : فالاستغفار) (أخرجه البيهقي في شعب الإيمان، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب والترهيب) .
10- وقال رباح القيسي :(لي نيف وأربعون ذنباً، قد استغفرت الله لكل ذنب مئة ألف مرة) (أخرجه أبو النعيم في حلية الأولياء) .
11- وروى أبو النعيم في الحلية أن عمر بن عبد العزيز خطب فقال : (أيها الناس من ألم بذنب فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر وليتب، فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل الهلاك الإصرار عليها) (أخرجه أبو النعيم في حلية الأولياء) .
12- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : (شهادة التوحيد تفتح باب الخير، والاستغفار يغلق باب الشر) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، عبد الرحمن بن قاسم) .
وقال أيضاً رحمه الله : (إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة التي تشكل علي فأستغفر الله تعالى ألف مرة، أو أكثر أو أقل، حتى ينشرح الصدر وينحل لإشكال ما أكشل، وقد أكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن انال مطلوبي) (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية ، محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي) .
وما من شك أن الداعية الملتزم بالاستغفار يكون سائراً على منهج الأنبياء والصالحين، وهذا له أثره الطيب في الدعوة إلى الله تعالى .
2/ تحقيق القدوة الحسنة للمدعوين :
ومع حرص الداعية على الاستغفار، يعطي دروسا عملية للمدعوين في أهمية ملازمة الاستغفار، والحرص عليه .
(ولا يخفى أبداً أثر القدوة فهي الصورة الحية للفكرة، والتطبيق العملي للدعوة، والتوضيح الجلَّي للحجة، ولا شك أنها من أعظم أسباب بذر المحبة في القلوب، ووجود القناعة في العقول، وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة الحسنة، ولاسيما العامة أرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة مالا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها) (مقومات الداعية الناجح ، د. على عمر بادحدح) .
قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله : ” إن صلاح هو أبلغ خطبة تدعو الناس إلى الإيمان, وخلقه الفاضل هو السحر الذي يجذب إليه الأفئدة, ويجمع عليه القلوب, وإن الداعية الموفق الناجح هو الذي يهدي إلى الحق بعمله, وإن لم ينطق بكلمة لأنه مثل حي متحرك للمبادئ التي يعتنقها. وإن تناقض الفعل والقول هو أخطر شغب يمس قضايا الإيمان ويصيبها في الصميم ولا يكفي- لكى يكون المرء قدوة- أن يتظاهر بالصالحات, أو يتجمل للأعين الباحثة؛ فإن التزوير لا يصلح في ذلك الميدان, وإن التدين الحقيقي صورة لجوهر النفس بعدما استكانت لله ونزلت على أمره واصطبغت بالفضائل التي شرعها, وترفعت عن الرذائل التي حرمها, واستقامت على ذلك استقامة تامة, هذا التدين وحده هو الذي تلتمس منه الأسوة ويقتبس منه الهدى, ومن ثم نرى لزاما علينا التوكيد بأن القدوة وحدها وما يبعث على الاقتداء من إعزاز وإعجاب هما السبيل الممهد لنشر الدعوة في أوسع نطاق ” (مع الله: دراسات في الدعوة والدعاة, الشيخ محمد الغزالي) .
إن سلوك الداعية الناصح هو الصورة الحية لما يدعو الناس إليه, وإنه يكسب لدعوته بسلوكه أكثر مما يكسبه بمواعظه وكلامه, فينبغي أن يكون ناصحا بحاله قبل أن يكون ناصحاً بمقاله, وإلا كان عقبة كئود في طريق الدعوة .
” إن الباحث في سير الدعاة يلاحظ أنهم كانوا أكثر تأثيرا في الناس بسلوكهم وثبات أخلاقهم على كل الأحوال, فعين الجمهور فاحصة ومنطقة الأفعال أقوى في الإقناع, وإن القدوة الحسنة لا يعدلها شيء في حسن التأثير فالكلام- والبراعة فيه- صفة سهلة يجيدها الخيرون كما يجيدها المشعوذون والكذابون على السواء, ويعرف سبيلها المخلصون والمنافقون, ولذا كان أول ما يجب أن تنصرف إليه همة الداعية هو إصلاح نفسه وتعهدها بالتدريب والتهذيب فإن أنس منها خيرا أمكنه أن ينطلق برسالته إلى الآخرين ” (كيف ندعو الناس, الشيخ عبد البديع صقر) .
إن موافقة أخلاق الداعي لمضمون دعوته يؤكد مضمون الدعوة ويقويه في نفوس المدعوين والإتباع, فإنه يكون مثلاً حياً لما يدعو إليه, ونموذجا عمليا يحتذيه الأتباع, ويخرج في أنفسهم عن أن يكون مضمون الدعوة أمراً خيالياً بعيداً عن الواقع، هذا بالإضافة إلى أن المدعو يتعلم من أخلاق الداعية من التفاصيل ما قد لا تبلغه الدعوة القولية .
ولو أن أخلاق الداعي كانت على خلاف ما يدعو إليه كان ذلك تكذيبا ضمنيا لدعوته, وإضعافا لها في نفوس المدعوين والأتباع, والمعصية قبيحة من كل أحد, ولكنها من الداعية أشد قبحاً وسوءاً. وهو مهلك لدعوته, قاطع للناس عن القبول منه, وهذا القول صادق على التمسك بالأخلاق والآداب الإسلامية بصفة عامة ” (الموسوعة الفقهية, إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية, ط/3, الكويت: 1425هـ/ 2004م, 20/331) .
ولأهمية القدوة في الدعوة أمر الله تعالى بالاقتداء بإمام الدعاة صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه : ” لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ” [الأحزاب: 21] .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : (واستدل الأصوليون في هذه الآية, على الاحتجاج بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم , وأن الأصل, أن أمته أسوته في الأحكام, إلا ما دل الدليل الشرعي على الاختصاص به .
فالأسوة نوعان : أسوة حسنة , وأسوة سيئة .
فالأسوة الحسنة, في الرسول صلى الله عليه وسلم , فإن المتأسي به, سالك الطريق الموصل إلى كرامة الله , وهو الصراط المستقيم .
وأما الأسوة بغيره, إذا خالفه, فهو الأسوة السيئة, وهذه الأسوة الحسنة, إنما يسلكها ويوفق لها, من كان يرجو الله , واليوم الآخر, فإن ما معه من الإيمان, وخوف الله, ورجاء ثوابه, وخوف عقابه, يحثه على التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم) (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان, الشيخ عبد الرحمن السعدي) .