تتمة أقسام المجاز القسم الحادي والعشرون
وأما الخامس : فقد أطبق جمهور علماء هذه الصناعة على أن أقسامه أربعة : الاول : تشبيه محسوس بمحسوس. الثاني : تشبيه معقول بمعقول. الثالث : أن يكون المشبه معقولا ، والمشبه به محسوسا. الرابع : أن يكون المشبه محسوسا والمشبه به معقولا. وقد زاد ابن الأثير قسما خامسا ، وسماه غلبة الفروع على الأصول ، وسيأتي بيانه.
أما الأول وهو تشبيه المحسوس بالمحسوس فكقوله تعالى : ( وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) وقوله تعالى : ( كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ ) ومن شرط هذا النوع أن يكون المشبه والمشبه به مشتركين من وجه مختلفين من وجه ، ولا يخلو إما أن يكون اشتراكهما في الذات واختلافهما في الصفات ، وإما أن يكون بالعكس.فالأول مثل تشبيه العدو بالطيران لأنه ليس الاختلاف بينهما إلا بالسرعة وبالبطء. والثاني كتشبيه الشعر بالليل والوجه بالنهار .. وأما القسم الثاني وهو تشبيه المعقول بالمعقول فهو كتشبيه الموجود العاري عن الفوائد بالمعدوم أو تشبيه الشيء الذي تبقى فوائده بعد عدمه بالموجود. ومنه قول الشاعر :
فرحت وآمالي كحظي كواسف
وعزمي يحاكي سعيه في المكارم
وأما القسم الثالث الذي هو تشبيه المعقول بالمحسوس ، فهو كقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ ). وقوله : ( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ). وقوله
تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ) وأيضا مثل تشبيه الحجة بالشمس وبالنور الذي هو محسوس بالبصر ، وليس لأحد ان يقول الحجة أيضا مسموعة.
قلنا المفيد هو المعاني العقلية الحاصلة في الذهن ووجه المشابهة أن القلب مع الشبه كالبصر مع الظلمة في أن البصر في الظلمة لا يفيد لصاحبه مكنة السعي ، ولو سعى فربما دفع إلى الهلاك فتردّى في أهوية ومن الأمثلة تشبيه العدل بالقسطاس ..
وأما القسم الرابع وهو تشبيه المحسوس بالمعقول فهو غير جائز لأن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية اليها ، ولذلك قيل : من فقد حسا فقد علما ، وإذا كان المحسوس أصلا للمعقول فتشبيهه به يكون جعلا للفرع أصلا وللأصل فرعا ، وهو غير جائز ، وكذلك لو حاول محاول المبالغة في وصف الشمس بالظهور أو المسك بالطيب فقال الشمس في الظهور كالحجة والمسك في الطيب كخلق فلان كان سخفا من القول مع أنه قد ورد في الكلام الفصيح وأشعار العرب والمتأخرين منه ما لا يحصى. فمن ذلك قول بعضهم :
وكأنّ النجوم بين دجاها سنن لاح بينهنّ ابتداع ـ وكقول بعضهم :
ولقد ذكرتك والظلام كأنه
يوم النوى وفؤاد من لم يعشق
ـ وقول بعضهم :
كأنّ ابيضاض البدر من تحت غيمه
نجاة من البأساء بعد وقوعه
ـ وقول التنوخي :
أما ترى البرد قد وافت عساكره
وعسكر الحرّ كيف انصاع منطلقا
فانهض بنار الى فحم كأنهما
في العين ظلم وانصاف قد اتفقا
جاءت ونحن كقلب الصبّ حين سلا
بردا فصرنا كقلب الصّبّ إذ عشقا
ـ وقال آخر :
ربّ ليل كأنه أملى فيك وقد رحت عنك بالحرمان
ـ وقول الصاحب حين أهدى العطر إلى القاضي أبي الحسن :
يا أيها القاضي الذي نفسي له
في قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطرا مثل طيب ثنائه
فكأنما أهدى له أخلاقه