بسم الله الرحمن الرحيم
(القاعدة الثانية (المشقة تجلب التيسير)
هذا اصل عظيم جمع رخص الشريعة وتحقيقاتها متفرعة عنه. قال الله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)(البقرة).وقال تعالى (لايكلف الله نفسا ألا وسعها) (ألبقرة) وقال تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا. [الطلاق7
فهذه الايات وغيرها دليل على هذا الاصل الكبير.
فجميل الشريعة حنيفية سمحة حنيفية في التوحيد لان مبناها على عبادة الله وحده لاشريك له,سمحة في الاحكام والأعمال,فالصلوات المفروضات خمس في اليوم والليلة لاتستغرق من وقت العبد إلا جزءا يسيرا.وذلك على سبيل المثال وليس الحصر.
وهذا ينسحب على جميع العبادات إذ كلها في غاية اليسر والسهولة.
شرح ألفاظ القاعدة:
المشقة: من شق عليه الشيء يشق شقاً، إذا أتعبه، وأجهده وعنّاه، كقوله تعالى:(وتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) وقوله r: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)
تجلب: الجلب، سَوقُ الشيء من موضع إلى موضع، ومنه نهيه صلى الله عليه وسلم عن تلقي الجَلَب.
التيسير: التسهيل، والتخفيف، والسهل ضد الصعب.
معنى القاعدة:
هذه القاعدة من أوضح الأدلة على رفع الحرج في هذا الشريعة الغراء، وتؤكد قول الله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، وهي تفيد: أن ما يحصل على المكلف من مشقة بسبب العبادة، فإن هذه المشقة توجب له التسهيل والتخفيف، إما بسقوط العبادة برمتها، أو التخفيف من بعض تكاليفها.
أنواع المشاق([1]): قسم العلماء المشاق إلى قسمين:
أ- مشاق لاتنفك عنها العبادة، كمشقة الجهاد، أو الصوم أو الحج، وكمشقة إخراج المال الزكوي –وبالأخص إذا كثر- على بعض النفوس ب- مشاق تنفك عنها العبادة غالباً وهي على ثلاثة أنواع:
1- مشقة عظيمة فادحة كالخوف على النفس من الهلاك إن اغتسل بسبب مرض بجرح أو برد شديد، ونحوه.
2- مشقة خفيفة كأدنى وجع في أصبع أو سن ونحوه، وإذا أصابه ماء الوضوء حصل له هذا الألم الخفيف، فيقال لا أثر لهذه المشقة.
3- مشاق واقعة بين تلك المشقتين، فينظر: فما دنا من أحدهما ألحق به.
لذا فقد وضع العلماء بناء على هذا ضوابط للمشقة، إذا تحققت حصل التيسير، وهذه الضوابط هي:
ضوابط المشقة:
1- أن لا تكون من المشاق التي لا تنفك عنها العبادة غالباً، لأن هذه لاتؤثر في التخفيف، بل هي مرادة للشارع، وهي جزء من المقصود بالتكليف، بل إنما التكليف لما فيه من الكلفة وشيء من مشقة، فلذا فإن المشقة وحصول التعب الشديد والتعرض للقتل الحاصل من الجهاد، ليست مشقة مسقطة للتكليف، ولا المشقة في طلب العلم والسهر في تحصيله مسقطة له، ولامشقة الصوم مسقطة له، ولامشقة الوضوء بالماء البارد في الشتاء مسقطة له وهكذا… وكذلك فقد أمرنا الله تعالى بالقصاص، وبرجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق، ولاشك أن في هذا مشقة سواء على المقام عليه الحد، أو مقيمه، فلا يَسقط حكمها.
2- أن تكون المشقة خارجة عن المعتاد في مثلها، وإن أمكن فعل العبادة معها، وقال الشاطبي رحمه الله في وصفها: «التي تشوش على النفوس في تصرفها، ويقلقها القيام بما فيه تلك المشقة سواء كان ذلك في الحال أو المآل»، والمعنى كما ذكر أيضاً: إن هذه المشقة الحاصلة يؤدي الدوام عليها إلى الانقطاع عن العمل، أو عن بعضه، أو وقوع خلل في صاحبه في نفسه أو ماله، أو حال من أحواله.
3- أن تكون المشقة واقعةً حقيقة لاتوهماً؛ لأنه ربما ظن المكلف عدم قدرته وهو قادر، يدل على هذا أن بعضاً من الناس يمنع الصغير من الصوم بزعم المشقة التي تحصل له، فإذا صام لم ير للمشقة المظنونة أثر، أو كالمريض الذي يفطر في نهار رمضان لكونه مريضاً دون أن يتيقن حصول المشقة له في الصوم، وهذا أمر مهم يجب التنبه له وتنبيه الناس عليه، ولكن إذا كانت المشقة مظنونةً ظناً غالباً فإن الظن الغالب كالمحقق.
ضوابط التيسير([2]):
1- التحقق من حصول المشقة التي تستدعي التيسير.
2- التحقق من حصول التيسير.
3- طلب التيسير من الوجه الذي شرعه الشارع([3]).
4- عدم ترتب مفسدة على التيسير عاجلا أو آجلاً.
5- عدم مخالفة التيسير للنصوص الشرعية([4]).
أسباب التخفيفات:
الشارع الحكيم جل وعلا رأفة بالعباد، وتخفيفاً عليهم، ورفعاً للحرج والمشقة عنهم، جعل أسباباً إذا وجدت خفف بها عنهم بعض ماكلفهم به، وحصر العلماء الأسباب في أمور سبعة، هي: السفر- المرض- الإكراه- النسيان- الجهل- النقص- العسر وعموم البلوى ([5]).
ونورد صوراً من التخفيفات التي حصلت بهذه الأسباب:
1- السفر: ومن صور التخفيف: قصر الرباعية، الجمع بين الصلاتين، الفطر، وغير ذلك، وبعض العلماء يشترط أن يكون السفر لغير المعصية، فإن كان السفر لمعصية لم يستبح بالسفر ما حرم عليه قبله، ولذا جاءت القاعدة الفقهية:« الرخص لاتناط بالمعاصي».
2- المرض: فللمريض -غير القادر- أن يصلي قاعداً، فإن عجز فمستلقياً، فإن عجز أومأ إيماء، وإذا عجز عن الصيام أفطر، ومن ذلك سقوط الصيام عن الحائض لأنه نوع مرض، وربما أرهقها ذلك بسبب الخارج، وإذا لم يستطع استعمال الماء تيمم، كما له أن يمسح على الجبيرة، وله أن يستنيب في الحج، ونحو تلك التخفيفات.
3- الإكراه، وخفف الله به عن المكرَه ما يكون فيه الإكراه ملجئاً، وضابط الإكراه الملجيء: ما توفر فيه شروط:
1- أن يخشى فيه على النفس أو عضو منها. 2- أن يكون المكرِهُ قادراً على تنفيذ ماهدد به.
3- أن يغلب على ظن المكرَه تنفيذ المكرِه ما هدد به.
ومن أمثلة ذلك، أن يكرهه على قول كلمة الكفر، فيقولها، ولكن إن أكرهه على القتل أو الزنا، فقال العلماء: يحرم عليه الفعل.
4- النسيان: وقد رفع الله تعالى عن المكلفين إثم النسيان قال تعالى: (ربنا لاتؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وقال تعالى: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، والحرج المرفوع هنا هو الاثم، فإن الناسي لا إثم عليه؛ لأن في تحميله الإثم مشقة عليه وحرج، والشريعة جاءت بالتيسير ورفع الحرج، فيكون هذا متعلقاً بحقوق الله الأخروية، وأما الحقوق الدنيوية فلا يؤثر النسيان عليها، فمن أكل مال غيره ناسياً فيجب عليه بدله،وهنا قاعدة وضعها الفقهاء فقالوا: «النسيان إنما يؤثر في جعل الموجود معدوماً لا في جعل المعدوم موجوداً» فمن أكل ناسياً، كأنه لم يوجد فعل الأكل، ولكن من ترك صلاة ناسياً فلا يعتبر انه صلاها فلا تلزمه، ومثاله في الحج فمن نسي وغطى رأسه لاشيء عليه، فجعلنا الموجود وهو تغطية الرأس معدوم فلا كفارة، ولكن من ترك واجباً ناسياً، فلا يقال: لا شيء عليه؛ لأن النسيان لايجعل المعدوم وهو الواجب هنا موجوداً.
5- الجهل: وهو ضد العلم وفي الاصطلاح، اعتقاد الشيء على خلاف ماهو عليه، فمن ارتكب محرماً من المحرمات جاهلاً أنه محرم، فلا عقاب عليه، ومن جهل حكم شرب الخمر فلا حد عليه، وهكذا، لكن يجب أن يلاحظ أنه ليس كل من ادعى الجهل يصدق، ولكن إذا ظهرت أمارات صدقه وإلا فلا، فلايقبل من عاش بين المسلمين وفي حواضر بلدانهم، دعوى عدم علمه بتحريم الخمر مثلاً، وكذا لايحكم بكفر من استحل معلوماً من الدين بالضرورة بمجرد استحلاله، لذا أورد الإمام ابن قدامة رحمه الله ضابطاً في هذا فقال: «كل جاهل بشي يمكن أن يجهله لا يحكم بكفره حتى يُعَرَّف ذلك وتزول عنه الشبهة ويستحله بعد ذلك»، وينبه هنا أن الجهل لايسقط حق الغير، فمن أتلف مال غيره جهلاً ضمنه، فليس الجهل بعذر في حقوق العباد.
6- النقص: هو لغة الضعف، والمراد بالنقص هو عدم الكمال، وقد خفف الله عمن كان فيه شيء من النقص، ومن هؤلاء غائب العقل ، والعبد، والمرأة، ويدخل في غائب العقل: المجنون، والمعتوه، والنائم، والمغمى عليه، فهذه العوارض إذا عرضت للإنسان بعد كمال أهليته اثرت في تكليفه، وخففت عنه، فلذا فليس على المجنون تكليف، وكذا المعتوه، وإن كانت تصح منه إن عقلها، وجعلوا حكمه حكم الصبي المميز، وأما النائم فلا تكليف عليه، فلو طلق أو قذف وهو نائم فلامؤاخذة عليه، وكذا الحكم في المغمى عليه.
وأما العبد فمن التخفيفات التي حصلت بسبب رقِّه: سقوط الجمعة والجماعة عنه، وكذا الحج والعمرة، وخفف عنه في العقوبة فكان على النصف من الحر.
واما المرأة فخفف عنها بإسقاط الصوم والصلاة حال حيضها وحال نفاسها، وسقوط طواف الوداع عنها إذا حاضت ولم تطف، وعدم وجوب الجمعة والجماعة عليها.
7- العسر وعموم البلوى: والمراد به ما لايمكن التحرز عنه عند أكثر الناس، فإذا كان من هذا النوع فلايلزم المكلف التزامه، ومن ذلك رذاذ البول الذي لايُرى لصعوبة التحرز منه، وهو مما تعم به البلوى، وكذلك العفو عن دم البراغيث والبعوض، وما يكون في أرجل الذباب من النجاسات، ونحو ذلك.
أنواع التخفيفات: هي سبعة أنواع
1- تخفيف إسقاط: كسقوط الجمعة والصوم عن المسافر أو المريض ونحوهم
2- تخفيف تنقيص: كقصر الرباعية في السفر إلى اثنتين.
3- تخفيف إبدال كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، والقيام بالقعود للعاجز، ونحو ذلك
4- تخفيف تقديم: كتقديم إحدى الصلاتين إلى الأخرى حال الجمع
5- تخفيف تأخير: كتأخير إحدى الصلاتين المجموعتين مع التي تليها.
6- تخفيف ترخيص: كصلاة المتيمم مع الحدث، وشرب الخمر للغصة، والتلفظ بالكفر عند الإكراه.
7- تخفيف تغيير: كتغيير هيئة الصلاة كما في صلاة الخوف.
أدلة القاعدة:
أدلة هذه القاعدة متكاثرة في الكتاب والسنة، نذكر بعضاً منها:
فمن الكتاب:
قوله تعالى:(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ){ وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)، وقوله تعالى:(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا )وقوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) وقوله تعالى: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا).
ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لن يغلب عسر يسرين).
ومن السنة:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا)
2- قوله صلى الله عليه وسلم : (بعثت بالحنيفية السمحة)
3- ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما.
4- وأيضاً جميع ما ورد من تشريع الرخص فإنه دليل لهذه القاعدة.
من فروع القاعدة:
1- تشريع الرخص عموماً، وهذا من فروع القاعدة وأدلتها أيضاً، فللمسافر القصر والجمع، وللمضطر أكل الميتة ولحم الخنزير، وللمصلي التيمم عند عدم الماء أو الخوف من استعماله، وإساغة اللقمة بالخمر للغاص، وإباحة السلم والإجارة ونحوها، فكل هذه من الرخص التي شرعها الله تيسيراً على العباد بسبب حصول المشقة في فعلها.
2- ليس على قيم المسجد الذي يتكرر دخوله صلاة تحية المسجد كلما دخل.
3- جواز النطق بكلمة الكفر عند الضرورة.
4- إذا اشتبهت أخته مع غيرها في بلد كبير، لايجب عليه أن يتحرى، للمشقة الحاصلة بذلك.
5- إذا وقعت نجاسة في مكان واسع صلى حيث شاء.
مكتب الدعوة والدعاة
19 رمضان 1435 هجرية