القاعدة الاصولية لهذا اليوم الجمعة 28 شعبان 1435 هجرية :
( إذا اجتمعت المصلحة والمفسدة فالعمل على أرجحهما)
هناك من الأمور ما لا تكون فيها المصلحة خالصة، أو المفسدة خالصة بل يجتمع الأمران في آن؛ بحيث لا يمكن التعامل مع أي منهما على انفراد، فلا تُحصَّل المصلحة إلا بتحصيل المضرة، ولا تُزال المضرة أو تدفع إلا بإزالة المصلحة ودفعها، فإن كانت المصلحة أرجح من المضرة؛ فإن المصلحة تُحَصَّل، وإن أدى ذلك إلى تحصيل المضرة؛ لأنها تنغمر إلى جانب المصلحة الأكبر، وإن كانت المضرة أرجح فإنها تدفع، وإن أدى ذلك إلى دفع مصلحة هي أقل من المضرة شأناً.
ومن فروع تلك القاعدة فداء أسرى المسلمين بالمال؛ فتحرير الأسارى المسلمين من أيدي الكفار مصلحة، بينما ذهاب جزء من أموال المسلمين إلى الكفار مفسدة، لكن مصلحة تحرير أسرى المسلمين أرجح من مفسدة ذهاب جزء من أموال المسلمين إلى الكفار فترجح، ويدخل في ذلك تبادل الأسرى، وإعطاء بعض المؤن للكفار إذا لم يمكن توصيل المؤن للمسلمين المحاصرين إلا بذلك الطريق، ونحو ذلك من المسائل. وقد لخص ابن تيمية ـ رحمه الله ـ الكلام في هذه القاعدة بكلام بديع فقال: «الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصّل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما» إلى أن يقول ـ رحمه الله ـ: «وهذا باب التعارض باب واسع جداً، لا سيما في الأزمنة والأمكنة التي نقصت فيها آثار النبوة وخلافة النبوة؛ فإن هذه المسائل تكثر فيها، وكلما ازداد النقص ازدادت هذه المسائل، ووجود ذلك من أسباب الفتنة بين الأمة؛ فإنه إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم؛ فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر، وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات، لكون الأهواء قارنت الآراء»(13).
والفقه الصحيح في هذا الباب الذي يترتب عليه تقديم ما يستحق التقديم، وتأخير ما حقه التأخير، وتحصيل ما حقه أن يحصل، ودفع ما حقه أن يدفع، يحتاج إلى علم صحيح بمراتب الأعمال ودرجاتها وتفاوتها، فيميز بين الضار والأشد ضرراً، والضار الخالص الذي ليس فيه نفع، والضار الذي يصحبه نفع، ويميز بين الصالح والأشد صلاحاً، والصالح الذي ليس فيه مفسدة، والصالح الذي تخالطه المفسدة، ويوازن بين الصلاح وبين الضرر عند الاختلاط، فيعرف أرجحهما وأخطرهما، ويعمل على مقتضى ذلك بحسب ما تقدم من القواعد.
أخف الضررين والفهم الخاطئ:
يظن كثير ممن لم يحقق الأمور ويدققها أن أخف الضررين هو أيسرهما وأسهلهما في بادي الرأي؛ بقطع النظر عن أية ضوابط أخرى، والمراد بأخف الضررين هو ما كان أخف الضررين بالمعيار الشرعي، وليس بالمعيار النفسي أو العاطفي؛ فقد يكون أخف الضررين شرعاً هو الأشد أو الأصعب فيما يظهر؛ فقد منع قوم الزكاة بعد وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فرأى أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ قتالهم، ورأى غيره ترك قتالهم ومحاولة تألُّفهم(14)، وقد يرى الرائي من بعيد أنَّ نَصْبَ القتال أمر شديد، وأن الأيسر منه ترك القتاك مع محاولة تألُّفهم، وأن هذا هو الأخف ضرراً، وهو أهون الشرين، لكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ رفض ذلك وأبى أشد الإباء، وكان القتال عنده أخف الضررين وأهون الشرين، حتى إنه ـ رضي الله عنه ـ لم يقبل مشورة من أشار عليه، وأقسم بالله العظيم بقوله: «والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلتهم على منعه»(15)، والعقــال: الحبل الذي توثــق بـه الإبل؛ فأبـو بكـــر ـ رضي الله عنه ـ لا ينصب القتال على حبل لا قيمة له في ذلك الزمان؛ لكن الأمر كان متعلقاً بالخروج على الدين والامتناع عن التزام بعض أحكامه، وقد أجمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ بعد تردد قصير على صواب رأي أبي بكر، وحمدوا له موقفه ذلك؛ وهذا مما يدل على إجماع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على أن نصب القتال لمن أبى التزام شرائع الله أو بعضها أخف ضرراً من تسويغ مخالفة الشريعة والخروج عليها؛ فأخف الضررين ليس المراد به القبول بالأمر الواقع المخالف للشريعة، والإذعان له، ولكن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ ومعه الصحابة ـ إذ أخذ هذا القرار؛ فقد أعد العدة لذلك، وجهز الجيوش ورتبها وأشرف عليها، حتى لا يكون هناك تقصير في الأخذ بالأسباب؛ ولذلك فقد كلل الله جهود الصحابة بالنجاج، وأغلق على المسلمين باباً عظيماً من أبواب الفتنة، لو فُتح لضاع الدين.
المكتب الاعلامي