من الفقه في حل الخلافات
ان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى اله واصحابه ومن تبعهم بإحسان الى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا . الخلاف أمر حتمي قدري لابد من وقوعه، سواء كان الخلاف على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الحركات أو الجمعيات أو الدول أو غيرها. وإن من أخطر أنواع الخلاف ما يكون داخل الصف الإسلامي، وأعني بالصف الإسلامي العمل الإسلامي بجميع عناصره، ذلك الصف الذي يعمل لوجه الله وابتغاء مرضاته، ويسعى لهدف سامٍ هو تحكيم الإسلام في الأرض ونشره، الصف الذي فيه أو يفترض مجموعة من خِيَرة المجتمع عقائدياً، وأخلاقياً، وعلمياً، وفكرياً، لهو في حاجة ماسة لمستوى رفيع في حل خلافاته. إن هذه القضية تعد من أهم وأخطر قضايا العمل الإسلامي، وتحتاج لدراسة متأنية توضع لها الأسس والثوابت والآليات حتى تكلل الجهود بالنجاح، وتؤتي أفضل النتائج، وحتى توحد الصفوف والجهود. فلنتدارس سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونأخذ منها العبر والعظات لتكون لنا نبراساً يضيء الطريق. أيها المسلمون: سنتحدث هنا عن موقفان للنبي صلى الله عليه وسلم لنرى كيفية تعامله الأمثل لحلها، ووضعه للأسس الصحيحة التي يُحلّ عليها الخلاف. ويبقى على العلماء والدعاة والمربين الاستفادة من هذه الأسس، وتأصيلها في النفوس، ونشرها. الموقف الأول: موقف بعض الأنصار من غنائم حنين، ووجدهم في أنفسهم من توزيع النبي صلى الله عليه وسلم، وعطائه الجزيل لقريش وبعض قبائل العرب، وعدم إعطائهم منها، حتى قالوا: “إن هذا له و العجب يُعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم”. لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا في قريش وفي قبائل العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة، حتى قال قائلهم: لقد لقي والله رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لِـمَا صنعت في هذا الفيء الذي أصبت: قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: يا رسول الله! ما أنا إلا من قومي، قال: فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، قال: فخرج سعد، فجمع الأنصار في تلك الحظيرة، فجاء رجال من المهاجرين، فتركهم فدخلوا، وجاء آخرون فردّهم، فلما اجتمعوا له أتاه سعد، فقال: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم، وجِدة وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله؟ وأعداءً فألف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى لله ورسوله المنُّ والفضل، ثم قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنُّ والفضل. قال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدَقْتم ولصُدّقتم: أتيتنا مكذَّباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، أوَجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدنيا تألفتُ بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرؤاً من الأنصار، ولو سلك الناس شِعباً، وسلكت الأنصار شِعباً لسلكت شِعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قَسَماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا. أيها المسلمون: لقد اتبع المصطفى صلى الله عليه وسلم في حل هذه القضية منهجاً غاية في الرقي والسمو والشفافية، ولا بد لنا من وقفات مع هذا المنهج الفريد لنتعلم كيف يُحل الخلاف مهما كان حجمه. فالموقف جد خطير، أن يجد بعض الصحابة في أنفسهم من فعل للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم الذين آمنوا به وصدقوه وناصروه، ولكنها الطبيعة البشرية التي تعامل معها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بأحسن ما يكون. وسنذكر هنا بعض الأسس المستفادة من هذا الموقف لنتبعها عند حل خلافاتنا. أولاً: الاستماع الدقيق للرأي الآخر، وعدم تسفيهه، أو الحكم عليه قبل سماعه: فلقد استمع الرسول صلى الله عليه وسلم من سعد بن عبادة إلى القضية كاملة، ثم اتخذ قراره بجمع الصحابة ليناقشهم فيما قالوا. فلا ينبغي أن يُتخذ قرارات من مصدر معلومات دون التأكد من صاحب القضية. إنها قضية التبين والتحقق. بالرغم من أن سعد بن عبادة رضي الله عنه يُعد من أطراف القضية ومن أصحابها، ولكنه الدرس النبوي الكريم لوضع الأسس السليمة لحماية المجتمع. فهذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فأين نحن منه؟ فهو يتخذ هذه الخطوات ليعلمنا ويرشدنا ويرسم لنا خطوط النجاة. فلا بد من تقبُّل الرأي الآخر، والتعامل معه باهتمام، وعدم إهماله وذلك بداية للحل. ثانياً: سعة الصدر: فلم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يصفهم بأي صفة تنقص من إيمانهم، أو حتى تشكك فيه، ووضّح بنفسه ما يمكن أن يجول بخاطر أي منهم: “أمَا لو شئتم لقلتم، فلصَدقتم ولصُدّقتم”، فأي سعة صدر، وأي عظمة هذه! إنها عظمة محمد صلى الله عليه وسلم. فلم نسمع أنها عدم ثقة في القيادة وقراراتها. إن الاختلاف في رأي أو قرارٍ ما، لا يعني عدم الثقة مهما كان هـذا الـرأي، ما دام في دائرته الشرعية، ولم يخرج عنها. ثالثاً: التزام أدب الخطاب والرقي فيه: بدأ المصطفى صلى الله عليه وسلم بعرض ملخص للقضية من وجهة نظر الأنصار: “يا معشر الأنصار! مقالة بلغتني عنكم”، ثم ذكَّرهم بفضل الله عليهم: “ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله؟”. ثم بدأ الحوار: “ألا تجيبوني يا معشر الأنصار”. فما دام الحوار بهذا الرقي فلا بد أن يكون الرد مناسباً له: “لله ورسوله المنّ والفضل”. فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بتذكيرهم بفضلهم وذلك لنزع ما قد يكون في صدورهم من بذور الخلاف. ثم يأتي دور إبراز الحقيقة، وتجليتها لهم، فيكون الرد الطبيعي والمنطقي لهذه المقدمات: “رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قَسَماً وحظاً”. إن التزام أدب الحوار في حل المشكلة سيختصر وقت حلها، وسيسرع في الحل الفوري لها، فلا مجال للصراخ والصوت المرتفع. إنها نتاج العقيدة الراسخة في ذوات النفوس. رابعاً: التذكير بالمسلَّمات بداية للحل: فعندما ذكَّرهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بفضل الله عليهم، ثم بفضله صلى الله عليه وسلم عليهم، وبعد ذلك جهودهم في نصرة الله ورسوله، أظهر لهم الحقيقة، فكانت كل هذه الخطوات متدرجة للنفس لتقبل الحل، وتنحي المجادلة العقيمة. فلنبدأ أولى خطوات الحل بالمسلَّمات ونقاط الاتفاق، ثم نقاط الاختلاف حتى نجد أرضية مشتركة للتفاهم على الحل. خامساً: التذكير بالفضل وعدم نسيانه: فلنؤْثر قلوب إخواننا بذكر بعض محاسنهم ومناقبهم في بداية الحل، حتى نهيئ النفوس لتقبل الحل، ولرسوخه في ذات الوقت. ولو بدأنا بالسلبيات سواء كانت عامة أو شخصية، لتوسعت دائرة الخلاف وتباعدت الرؤى. سادساً: سرعة الحل: فلقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم موعداً في الحال للاجتماع بهم، ومناقشة الأمر معهم، وهذا ما ينبغي عمله تجاه أي مشكلة في بدايتها وعدم تميعها، أو الاستهانة بها. إن التهاون في سرعة حل الخلاف في بدايته سيتسبب في خلل قد يكون أكبر من الخلاف ذاته. أمّا سرعة اتخاذ خطوات الحل فستئِدُ أي فرصة لتصعيد الخلاف. سابعاً: الإيجابية والمصارحة من كل الأطراف: لا بد هنا من وقفة مع إيجابية سعد بن عبادة عندما ذهب إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم في إيجابية رائعة لنقل الصورة بغرض الحل. فلا بد من الإيجابية والوضوح لسرعة الحل كما في موقفه عندما سأله الرسول صلى الله عليه وسلم: “فأين أنت من ذلك يا سعد؟” قال: “يا رسول الله! ما أنا إلا من قومي”. أيّ روعة وعظمة يسطرها التاريخ بأحرف من نور! فمن يُجامَل إذا لم يجامَل الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم؟ ولكن المسألة هنا ليست مجاملة، إنها إيجابية، وتحديد موقف، ومصارحة، ومكاشفة. فلم يتردد سعد بالبوح بما في أغوار نفسه، ولم يتردد الرسول صلى الله عليه وسلم أو يجد في نفسه من سماع رأيه وعدم إهماله، أو الضغط عليه لتغييره. ففي سرعة تبليغ سعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالوضع درسٌ للجندي حيال المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقه لحماية الصف ووحدته، وضرورة تقديره للموقف، وسرعة إبلاغه لقائده، وفي ذات الوقت عليه إيضاح رأيه دون أي وجل أو تردد. …. والحمد لله رب العالمين .. الشيــخ ماجد محمد العجيلي مستشــار العلاقــات العـــامة 12/3/2014
إنهاء الدردشة