عاجل_ اخبار الدار
الرئيسية / قسم الدعوة والدعاة / فهذه دراسية منهجية لمن أراد أن يسير على منهج الأمة المحمدية

فهذه دراسية منهجية لمن أراد أن يسير على منهج الأمة المحمدية

 

 

 

الحمد معز من أطاع أمره واتقاه ومذل من عصى امره ولم يخش لقاه واصلي واسلم على خير خلقه ومصطفاه وعلى آله وصحبه وجنده ومن اهتدى بهداه .
اما بعد :
فهذه دراسية منهجية لمن أراد أن يسير على منهج الأمة المحمدية
لقد حرص الإسلام على تحقيق الألفة والمحبة بين أتباعه وذلك بتعزيز وتأكيد الأخوة والتحذير من كل ما يتسبب في قطعها ويضعف من شأنها لهذا نهى عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والسب والشتم وغيره ، وفي المقابل حث وبيّن أن المؤمنين إخوة وشرع حقوقا ، فالالتزام بها يحافظ على هذه الأخوة وينشئ مجتمعا قويا ومتماسكا لا سبيل للشيطان وأعداء الإسلام إليه إلاّ إذا أُخِّل بذلك ، وهذا ما قرره القرآن في قوله تعالى :(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) .
ومن التحصينات التي سعى الإسلام لحماية هذه العلاقات الأخوية أن يتعامل أفراده بالعدل والإنصاف وهذا توجيه عام كما بينه القرآن حتى مع الأعداء ، فكيف مع من كانوا معنا ومنا من الإخوان الذين تربطهم بنا رابطة الإيمان والإسلام والدين ففي سورة[ المائدة /8] قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
ففي هذه الآية نداء لأهل الإيمان أن لا يحملنهم بغض قوم على ترك العدل فيهم ، بل عليهم أن يستعملوا العدل مع كل أحد صديقا كان أو عدوا لأنّ العدل أقرب للتقوى من تركه .
تعريف العدل :
العدل لغة : الإنصاف والحق وضده الجور ويقال للمرضيّ من الناس عدل فيقال : رجل عدل ، ورجلان عدل ورجال عدل لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث لأنه مصدر .
وفي الاصطلاح : قال ابن حزم : هو أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه (مداواة النفوس/81) وقال الجرجاني : هو الأمر المتوسط بين الإفراط والتفريط (التعريفات /147) ، ومنهم من قال : إن العدل هو المساواة في المكافأة إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ، والإحسان أن يقابل الخير بأكثر منه والشر بأقل منه . (بصائر ذوي التمييز4 / 28 ) صلاح الدنيا بالعدل : قال الماوردي رحمه الله : إنّ مما تصلح به حال الدنيا قاعدة العدل الشامل الذي يدعو إلى الألفة ويبعث على الطاعة وتغمر به البلاد وتنمو به الأموال ويكبر النسل ، ويأمن به السلطان .
خراب الأرض : وقال رحمه الله : وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور ، لأنه ليس يقف على حدّ ولا ينتهي إلى غاية ، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل .
أقسام العدل :
1) عدل الإنسان مع نفسه : قال الماوردي رحمه الله : إذا كان العدل من إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به ، ولا صلاح فيها إلا معه وجب أن يبدأ بعدل الإنسان في نفسه ثم بعدله في غيره .
فأما عدله في نفسه فيكون بحملها على المصالح وكفّها عن القبائح ، ثم بالوقوف في أحوالها على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير ، فإن التجاوز فيها جور والتقصير فيها ظلم ، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم ومن جار عليها فهو على غيره أجور .
2) عدل الإنسان مع الغير: وهذه فيها ثلاثة أقسام
ـ عدل الإنسان فيمن دونه كالسلطان في رعيته ، وعدله فيهم يكون بأربعة أشياء : باتباع الميسور وحذف المعسور ، وترك التسلط بالقوة وابتغاء الحق في السيرة .
ـ عدل الإنسان مع من فوقه كالرعية مع السلطان ويكون ذلك بثلاثة أشياء : إخلاص الطاعة ، وبذل النصرة ، وصدق الولاء .
ـ عدل الإنسان مع أكفائه : وهذا الذي يعنينا في بحثنا ويكون بثلاثة أشياء : بترك الاستطالة ، ومجانبة الادلال ، وكف الأذى .
فترك الاستطالة أألف وترك مجانبة الادلال أعطف ، وترك الأذى أنصف (نقلا من أدب الدنيا والدين للماوردي 141ـ144) بتصرف
العدل في القرآن :
لقد ورد لفظ العدل في القرآن بالمعنى العام كما ورد بالمعنى الخاص إما في الشهادة ، أو في الحكم أو غيره وأننا نقتصر على ذكر البعض بالمعنى العام ومنها : قال تعالى :
ـ {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }
ـ {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }الشورى15
الله موصوف بالعدل :
قال تعالى : {فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ }[الأعراف / 87] وقال تعالى : {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }[الأنعام/115] وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث هانئ بن يزيد : ( إن الله هو الحكم وإليه الحكم ) [رواه أبو داود 5 / 245 (رقم 4955) والنسائي (8/226) وإسناده جيد وصححه الألباني في صحيح الجامع (1845)] فالله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم بين عباده في الدنيا والآخرة بعدله وقسطه فلا يظلم مثقال ذرة ، ولا يحمل أحد وزر أحد ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه ويؤدي الحقوق إلى أهلها ، فلا يدع صاحب حق إلا وصل إليه حقه ، وهو العدل في تدبيره وتقديره .[انظر تفسير السعدي 5/627 ]فهو سبحانه موصوف بالعدل في فعله ، وأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة ليس فيها شائبة جور أصلا .
العدل في السنة :
1 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حكمتم فاعدلوا ، وإذا قتلتم فأحسنوا ، فأن الله عز وجل محسن يحب المحسنين ) [رواه الطبراني في الأوسط . أنظر السلسلة الصحيحة 469] 2 ـ عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمان عز وجل وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا » رواه مسلم ( 1827 )
3 ـ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث كفارات وثلاث درجات وثلاث منجيات وثلاث مهلكات ، فأما الكفارات : فإسباغ الوضوء (أي شدة البرد) وانتظار الصلوات بعد الصلوات ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وأما الدرجات : فإطعام الطعام ، وإفشاء السلام ، والصلاة بالليل والناس نيام ، وأما المنجيات : فالعدل في الغضب والرضا ، والقصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر والعلانية ، وأما المهلكات : فشحّ مطاع ، وهوى متّبع ، وإعجاب المرء بنفسه ) [رواه الترمذي (3958)وقال : حديث حسن ، وابن ماجه (1752) واللفظ له] 4 ـ عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : “بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومكارمنا ، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله ، وعلى أن نقول بالعدل أين كنا لا نخاف في الله لومة لائم” [رواه النسائي (7/139) واللفظ له ، وابن ماجه (2866) بلفظ : على أن نقول بالحق].
مكانة العدل :
تتجلى مكانة العدل أن الله تعالى أمر عباده به إذا حكموا فقال لنبيه (وإذا حكمت بينهم فاحكم بالقسط) [المائدة /42] وإذا قالوا (وإذا قلتم فاعدلوا ) [الأنعام /152] وهو سبحانه تعالى صاحب العدل في كل شيء فقال : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) [الأنعام / 114 ] العدل من نعم الله :
قال ابن حزم رحمه الله وهو يبين مكانة العدل : إن (من أفضل نعم الله على المرء أن يطبعه على العدل وحبّه ، وعلى الحق وإيثاره ) [مداواة النفوس (90)] في العدل صلاح الأعمال : وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : بالصدق في كل الأخبار ، والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال تصلح جميع الأعمال ، وهما قرينان كما قال الله تعالى وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) [الحسبة (23)] وإذا كان هذا شأن العدل فما هو شأن الإنصاف وما وجه الربط بينه وبين العدل .
الإنصاف :
لغة : فهو مصدر من أنصف ينصف قال في القاموس : انتصف منه استوفى حقه منه كاملا حتىّ صار كلّ على النّصف سواء ، كاستنصف منه ، وتنصّف منه السلطان سأله أن ينصفه ) القاموس المحيط (1107) وفي الاصطلاح : قال المناوي : الإنصاف هو العدل في المعاملة بأن لا يأخذ من صاحبه من المنافع إلا ما يعطيه ، ولا ينيله من المضار إلا كما ينيله )[التوقيف على مهمات التعاريف (64)] ويمكن تعريف الإنصاف بأن تعطي غيرك من الحق مثل الذي تحب أن تأخذه منه لو كنت مكانه ويكون ذلك بالأقوال والأفعال في الرضا والغضب مع من نحب ومع من لا نحب .
بين الإنصاف والعدل :
قال المناوي رحمه الله : ( الإنصاف والعدل توئمان نتيجتهما علو الهمة وبراءة الذمة باكتساب الفضائل وتجنب الرذائل ) [التوقيف على مهمات التعاريف (64)] لزوم الإنصاف مع الناس :
من لوازم الإنصاف للغير أن ينصف الإنسان نفسه قبل كل شيء لأن فاقد الشيء لا يعطيه وللعلاّمة ابن القيم رحمه الله كلام نفيس عن إنصاف النفس وإنصاف الغير فيقول بعد كلام طويل : وكيف ينصف غيره من لم ينصف نفسه ، فظلمها أقبح الظلم وسعى في ضررها أعظم السعي ، ومنعها أعظم لذّاتها من حيث ظنّ أنّه يعطيها إياها فأتعبها كل التّعب وأشقاها كل الشقاء من حيث ظنّ أنه يريحها ويسعدها وجدّ كل الجدّ في حرمانها حظّها من الله عز وجل وهو يظن أنه ينيلها حظوظها ، كيف يرجى الإنصاف للغير ممّن هذا إنصافه لنفسه ؟ إذا كان هذا فعل العبد بنفسه فماذا تراه بالأجانب يفعل ؟ [(زاد المعاد 2/408) بتصرف] حقيقة إنصاف الغير :
قال ابن القيم رحمه الله :” أن تؤدي حقوقهم وألاّ تطالبهم بما ليس لك وألاّ تحمّلهم فوق وسعهم ، ولأن تعاملهم بما تحب أن يعاملوك به وأن تعفيهم ممّا تحبّ أن يعفوك منه ، وأن تحكم لهم أو عليهم بما تحكم به لنفسك أو عليها “
يستدل للإنصاف بمثل ما استدل للعدل من آيات القرآن :
ونقتصر في هذا الباب على آيتين من سورة الممتحنة (8ـ9) ففي قوله تعالى{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } يخبر الله تعالى في هذه الآية بأنه لا ينهى عباده المؤمنين بالبر والصلة والمكافأة بالمعروف والقسط للمشركين من أقاربهم وغيرهم حيث كانوا إذا لم ينصبوا لقتالهم في الدين والإخراج من ديارهم .
فإذا كان هذا مع المشركين والكفار المسالمين الذين لا يعادون المؤمنين ولا يحاربوهم ، فكيف بالمؤمنين وكيف بالدعاة إلى الله الذين تجمعهم بهم رابطة العقيدة والدين .
الإنصاف في السنة والآثار :
ـ قال عمار بن ياسر رضي الله عنهما : ( ثلاث من جمعهنّ فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق من الإقتار ) [رواه البخاري (الفتح 1/103)] ـ قال محمد بن سيرين : ( ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما رأيت وتكتم خيره ) [البداية والنهاية 9/275] ـ وقال سفيان الثوري رحمه الله : عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة ، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما بدر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات والتعصّب والشهوات دون أن يعي بفضائلهم حرم التوفيق ودخل في الغيبة وحاد عن الطريق ) [جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر 2/162] ـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عند قوله تعالى : (ولا يجرمنّكم شنئان قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) قال : نهى الله أن يحمل المؤمنين بغضهم على أن لا يعدلوا ن فكيف إذا كان البغض لفاسق أو مبتدع أو متأوّل من أهل الإيمان ؟ فهو أولى أن يجب عليه ألا يعدل على مؤمن وإن كان ظالما له ) [الاستقامة 1/38] العبرة بكثرة المحاسن :
يخلو أحد من البشر كائنا من كان من أخطاء وهفوات وعيوب والعصمة للأنبياء ، كما أنه كل إنسان له حسنات قليلة كانت أو كثيرة وذلك بحسب ما عنده من الإيمان ، وقد قال تعالى في قصة أصحاب تبوك الذين تخلفوا أنهم خلطوا عملا صالحا وأخرا سيئا{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }[التوبة / 102] وهذه الآية وإن كان لها سبب فهي عامة في كل أحد خلط عملا صالحا وآخر سيئا ، فإن تاب – تاب الله عليه والله غفور رحيم والشاهد في الآية أنّ الإنسان يدور بين الحسنات والسيئات أو بين الخطأ والصواب والعبرة بكثرة الحسنات .
والواجب على المسلم عموما وطالب العلم والعالم والداعية أن يتعامل مع الناس بإنصاف كما يحب ذلك من نفسه ، وقد ضرب لنا أسلافنا أروع النماذج في العدل والإنصاف مع المخالف وغير المخالف وعلى رأس هؤلاء علماء الجرح والتعديل الذين أخذوا على عاتقهم أن يذودوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وسنته بالكشف عن أحوال الرجال وبيان درجتهم دون محاباة لأحد غير أن ذلك لا يخرجهم أن يلتزموا بما أوجب الله عليهم من العدل والإنصاف .
وإليك أخي الفاضل ما سطّره الحافظ الذهبي رحمه الله في كتبه الحافلة بمثل هذه الحقائق
_يقول رحمه الله في قتادة بن دعامة السدوسي البصري ( ت 117هـ ) : وهو حجة بالإجماع إذا بيّن السماع ، فإنه مدلّس معروف بذلك وكان يرى القدر ، نسأل الله العفو ،ومع هذا فما توقف أحد في صدقه وعدالته وحفظه ولعل الله يعذر أمثاله ممن تلبّس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه ، وبذل وسعه والله حكم عدل لطيف بعباده ولا يسأل عمّا يفعل ، ثم إنّ الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحرّيه للحق واتبع علمه وظهر ذكاؤه ، وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلله ولا نضلّله ونطرحه وننسى محاسنه ، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك ) [سير أعلام النبلاء 5/271] ـ وفي ترجمة أبي بكر القفال الشاشي (ت 365هـ) بعد أن ذكر كلام أبي سهل الصعلوكي عن تفسير أبي بكر القفال حيث قال : قدّسه من وجه ودنّسه من وجه .
قال الذهبي … والكمال عزيز ، وإنما يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل ، فلا تدفن المحاسن لورطة ولعلّه رجع عنها ، وقد يغفر له باستفراغه الوسع في طلب الحق ولا قوة إلا بالله ) [سير أعلام النبلاء 16/285] _ وفي ترجمة ابن عبد البر النمري القرطبي بعد كلام جميل في الثناء عليه وعلى علمه …. قال : ومن نظر في مصنفاته بان له منزلته من سعة العلم وقوة الفهم وسيلان الذهن ، وكل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن إذا أخطأ إمام في اجتهاده لا ينبغي لنا أن ننسى محاسنه ونغطي معارفه ، بل نستغفر له ونعتذر عنه )[ السير18/157] الله أكبر ما أجمل هذا الكلام وأروعه يكتب بماء الذهب وينقش في الصدور هذا هو مذهب السلف الذي نعتز به وندين الله به ونسير على خطا من سبق من السلف .
_ وقال أيضا في ترجمة أبي بكر بن العربي القرطبي (ت 543ه) ولم أنقم على القاضي رحمه الله إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له ، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم وأحفظ بكثير ، وقد أصاب في أشياء وأجاد وزلق في مضايق كغيره من الأئمة ، والإنصاف عزيزه [السير 20/202ـ203)] وللمزيد أنظر [السير 20/45ـ46 و23/142ـ143] ومن خلال هذه التراجم نلاحظ منهج الحافظ الذهبي رحمه الله الالتزام الإنصاف والعدل مع غيره إذا كان ذلك العالم قد استفرغ وسعه في طلب الحق والصواب مخلصا لله في اجتهاده مبتغيا وجه الله تعالى .
وهذا المنهج لم ينفرد به الحافظ الذهبي بل سار عليه غيره من أئمة السلف .
ـ قال سعيد ابن المسيّب رحمه الله : ليس من شريف ولا عالم ولا ذي سلطان إلا وفيه عيب لا بد ، ولكن من الناس من لا تذكر عيوبه ، من كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله ) [الكفاية ص 79] ـ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن تكلم عن المشايخ الصالحين في التأويل المبني بعضه على نوع اجتهاد وبعضه على نوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك فتنة لطائفتين :
ـ طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفاعل واتباعه عليه ـ وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه وايمانه حتى تخرجه عن الإيمان .
ثم يقول : وكلا هذين الطرفين فاسد ، والخوارج والروافض ( غير الشيعة ) والنواصب غير السنة ) وغيرهم من أهل الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا ، ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه فيعظم الحق ويرحم الخلق ، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ، ويحب من وجه ويبغض من وجه ، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم ) [منهاج السنة النبوية 4/ 543 ـ 544] ويقول العلامة ابن القيم رحمه الله ولكن من قواعد الشرع والحكمة أيضا أن من كثرت حسناته وعظمت وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يحتمل لغيره ، ويعفى عنه ما لا يعفى عن غيره فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث )[مفتاح دار السعادة 1/529] _ وقال العلاَّمة المعلِّمي رحمه الله : … وبالجملة فأسلافنا على ثلاث طبقات:
1 ـ من وضح لنا اعتصامه بالكتاب والسنة ، فهؤلاء الذين نتولاهم .
2 ـ من وضح لنا تهاونه بالكتاب والسنة ، فعلينا أن نتبرأ منهم .
3 ـ قوم خلطوا عملا صالحا وأخر سيئا عسى الله أن يعفو عنهم ويعذرهم وعلينا لأن نحمدهم فيما أصابوا فيه ونبرأ مما أخطئوا فيه والله المستعان . التنكيل (2/329)
آداب أهل الإنصاف :
إنّ من سمات أهل السنة والجماعة لزوم الإنصاف مع القريب والبعيد والصديق والعدو وذلك لأن الله أمر بذلك وحث عليه فقال : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) وقال : ( وقولوا للناس حسنا ) وليس للإنسان إلا البلاغ والدعوة بالتي هي أحسن قال تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن ) وقال تعالى : ( إن عليك إلا البلاغ )
ومن الآداب التي ينبغي أن تراعى مع المخالفين لاسيما أهل الفضل من العلماء والدعاة وطلبة العلم ما يلي :
1 ـ التجرد وتحرّي القصد الحسن والإنصاف عند الكلام على المخالفين ولا يكون قصده حب الظهور وقصد التشفي والانتقام ، وقصد الانتصار للنفس أو للطائفة التي ينتمي إليها ، وإنما عليه أن يقصد الحق أينما كان
2 ـ أهمية التبيّن والتثبت قبل إصدار الأحكام لا ينبغي للمسلم وخاصة من كان في مقام العلماء والدعاة أن يستعجل الحكم على الآخرين بمجرد كلام يسمعه من هذا أو ذاك من الناس الغوغاء وما أكثرهم ، بل الواجب هو الوقوف والتريث حتى يتبين الأمر على حقيقته كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } [الحجرات / 6 ] فالتثبت سمة من سمات أهل الإيمان فكيف بالدعاة والعلماء الذين هم القدوة والأسوة للناس .
3 ـ حمل الكلام على أحسن الوجوه وإحسان الظن بالمسلمين : الواجب على المسلم أن يحسن الظن بكلام أخيه المسلم وأن يحمل عبارته محملا حسنا وقد حرم الله تعالى الظن السيء فقال : (واجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم …) [الحجرات /12 ]وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إيّاكم والظن فإن الظنّ أكذب الحديث … ) الحديث
4 ـ ألا ينشر سيئات المخالف ويدفن حسناته : ليس من العدل أن يمحو الإنسان بخطأ واحد أو غلط جميع محاسن الشخص عالما كان أو دونه فالواجب الإنصاف والتماس العذر وتغليب الحسنات على السيئات فلا يسلم أحد من الخطأ :
إذا أنت لم تشرب مرار على القذى ظمئت وأي الناس تصفوا مشاربه
ولما أراد عمر رضي الله عنه أن يضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة في قصة الفتح حيث كتب إلى قريش كتابا يخبرهم بمسير الرسول صلى الله عليه وسلم وهذه تعتبر في نظر القوم خيانة كما قال عمر دعني اضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله وقد نافق ، ولكنها كانت من حاطب زلة وقد بيَّن عذره وسبب فعلته فعذره النبي صلى الله عليه وسلم لأنّ الرجل كانت له سابقة حسنة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إنّه قد شهد بدرا ، «وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطّلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» . [البخاري / المغازي (باب فتح مكة)] وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : (ومن أعظم المحرمات وأشنع المفاسد إشاعة عثراتهم والقدح فيهم في غلطاتهم (أي العلماء ويلحق بهم أهل الفضل من الدعاة وغيرهم) وأقبح من هذا إهدار محاسنهم عند وجود شيء من ذلك ، وربما يكون وهو الواقع كثيرا أنّ الغلطات التي صدرت منهم لهم فيها تأويل سائغ ولهم اجتهادهم فيه معذورون والقادح فيهم غير معذور ، وبهذا وأشباهه يظهر لك الفرق بين أهل العلم الناصحين والمنتسبين للعلم من أهل البغي والحسد والمعتدين .
فإن أهل العلم الحقيقي قصدهم التعاون على البر والتقوى والسعي في إعانة بعضهم بعضا في كل ما عاد إلى هذا الأمر ، وستر عورات المسلمين وعدم إشاعة غلطاتهم والحرص على تنبيههم بكل ممكن من الوسائل النافعة والذب عن أعراض أهل العلم والدين ولا ريب أن هذا من أفضل القربات ثم لو فرض أنَّ ما أخطأوا أو عثروا فيه ليس لهم فيه تأويل ولا غدر لم يكن من الحق والإنصاف أن تهدر المحاسن وتمحى حقوقهم الواجبة بهذا الشيء اليسير ) [الثقافة 1/436] 5 ـ النقد يكون للرأي وليس لصاحب الرأي :
لا خير في قوم لا يتناصحون ولا خير في قوم لا يقبلون النصيحة ، لأن الدين النصيحة كما جاء ذلك في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن تميم الدارمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الدين النصيحة قلنا لمن ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) [مسلم( 55) وأحمد (4/102) وأبو داود (4944)] ومن النصيحة أن يبين المسلم خطأ أخيه المسلم وينتقد رأيه كرأي وليس كشخص لأن الأصل في المسلم أن ينتقد لأجل البناء وبيان الحق لا لأجل الشخص نفسه .
6 ـ حمل كلام المخالف على ظاهره وعدم التعرض للنوايا والبواطن : الأصل في التعامل بين الناس بما ظهر لنا من حالهم وليس لنا أن نخوض في نواياهم إلا إذا أفصحوا هم عن نياتهم ، وقد علّمنا ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في قصة أسامة بن زيد حينما قتل الرجل بعد أن نطق بالشهادة فأنكر عليه ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال أسامة إنما قالها متعوذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«هلاّ شققت عن قلبه» .
نسأل الله العفو والعافية والمعافات في الدنيا والآخرة وان يجنبنا هوى النفس والشيطان ويجعلنا من يصدق فيهم ( خير خلف لخير سلف ) .
والحمد لله رب العالمين ..
مكتب الدراسات والبحوث العلمية
هيئة افتاء اهل السنة والجماعة في العراق
منقول للفائدة مع تعديل بسيط ..

 

 

 

عن admin

x

‎قد يُعجبك أيضاً

مفتي الجمهورية _ الزيارات في الله تعالى سبب لنيل محبة الله تعالى..

مفتي الجمهورية _ الزيارات في الله تعالى سبب لنيل محبة الله تعالى؛ قال صلى الله ...

تهنئة مفتي الجمهورية للجيش العراقي بمناسبة مرور مئة وواحد سنة على تأسيسه .

تهنئة مفتي جمهورية العراق الشيخ الدكتور مهدي بن أحمد الصميدعي ( وفقه الله تعالى ) ...

صلاة الكسوف فوائد وتذكير ..استجاب أن ينادى لصلاة الكسوف الصلاة جامعة، وأجمعوا أنه لا يؤذَّن لها، ولا تقام لها الصلاة.

صلاة الكسوف فوائد وتذكير .. استجاب أن ينادى لصلاة الكسوف الصلاة جامعة، وأجمعوا أنه لا ...