م/ المعتدين
الحَمْدُ للهِ المُتَفَرِدِ بالْعِزِ والإجلال ، المُتَفَضِلِ بالعطاءِ والإفضال ، مُسَخِرِ السَحابِ الثِقال ، جْلَ عن مثلٍ ومِثال ، وتعالى عن حِكَمِ الفِكرِ والخيال قديمٌ لم يزل ولا يزال ، يتفضلُ بالإنَعامِ فإن شُكِرَ زادَ وإن لم يُشكرَ أزال.أحْمَدُهُ تعالى على كلِ حالوأُصلي وأُسلم على رسولهِ محمدٍ أشرفِ من نَطَقَ من الخلقِ وقال وعلى صَاحِبِهِأبي بكرِ باذلِ النفسِ والمال وعلى عُمَر العادلِ فما جار ولا مال وعلى عثمانَ الثابتِ ثبوت الجبال وعلى عليٍ بحرِ العلومِ وبطلِ الأبطال.
عندما نتأمل فيما يحبه الله وفيما لا يحبه نعرف منظومة القيم التي تمثل مطلق الأخلاق البشرية الحميدة، التي بها عمارة الأرض والتي بها معيار الحكم على الأشياء والأفعال بالحسن والقبح، والتي بها حياة العدل، وحيث افتقد البشر ذلك المعيار فإن النكد والبلاء يحل بنا حتى مع حسن النوايا فليس بحسن النية وحده يتم المقصود.
قال تعالى : {وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ} [البقرة :190]. {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} [البقرة :205] {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} [المائدة:64] {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كُفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة :276] {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران :140]
{
وأول صفة هي صفة العدوان، وينهى عنها الله بنهي صريح مباشر، صار كالقاعدة المطردة [ولا تعتدوا] فالعدوان يفسد نفس الإنسان، ويولد هذه النفسية التي نراها عند الطغاة عبر التاريخ، غباوة في التصرف، وسوء تقدير للأمور وبلاء في النتيجة، مهما زين الطاغية المعتدي بكلامه أفعاله، وبرر هذه الأفعال فما دامت في نطاق العدوان كانت عدوانا، ونرى ما يحدث بالعراق وفلسطين من دماء تراق وطغيان لم يشهد التاريخ مثله، فقنبلة واحدة تهلك العشرات، وطلقة جوية واحدة تهلك المئات، فليتكلم كل البشر في تبرير ذلك إلا أن الحقيقة الباقية هي [إن الله لا يحب المعتدين]؛ ولذلك تتم المؤاخذة من المعتدين في الدنيا، ثم يرجعون إلى الله فيوفيهم حسابهم، والتبري من صفة العدوان يجب أن يتخلق به الإنسان على مستواه الشخصي وفي تربيته لأبنائه وعلى مستوى المجتمع، بل على مستوى الدول والعلاقات بينها.
ولذلك فإن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين، والفساد ينتج من العدوان، كما أنه لا يحب الظالمين والظلم هو التصرف في ملك الغير بدون إذنه، والعدوان فيه تصرف في ملك الغير بدون إذنه، ونتيجة الفساد والظلم ـ وهو مشتق من مادة الظلام التي هو ضد النور ـ وعاقبتها هي مخالفة مراد الله من خلقه قلي بارز الله بالمعصية من أراد حرب {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [يوسف :21].
والمعتدي الذي لا يرتدع فيه صفات كلها يكرهها الله ولا يحبها : الكفر (وهو ستر القلب عن
استماع موعظة الخالق، بدرجات الستر المختلفة التي تنتهي بإنكاره أو إنكار وحيه)، والإثم (أي طلب الإثم وعدم الاهتمام بأنه إثم ما دام ينفذ ما يريد؛ لأنه يفهم أن الحياة الدنيا نهاية علمه وغاية أمله {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم : 7] ولا يهتم بأمر الله فهو مختال بنفسه فخور بفعله مستكبر في نفسه، مستكبر في الأرض بغير الحق، فشأن الإنسان الضعف، ولذلك أمر بالحلم والأناة وليس بالكبر الذي يعمي بصيرته فلا يرى سوى نفسه ورأيه ولا يرى الواقع على ما هو عليه، ولا يرى المستقبل بعقل راجح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد قيس : (إن فيك لخصلتين يحبهما الله : الحلم، والأناة) [رواه مسلم ] وقد بين النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ذلك في سنته الشريفة فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت : (بَيْنَا أَنَا عِنْدَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِذِ اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ السَّامُ يا محمد فقال : النبي صلى الله عليه وسلم وعليك. فقالت عائشة : فهممت أن أتكلم فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فسكت. ثم دخل آخر فقال: السام عليك. فقال : وعليك. فهممت أن أتكلم فعلمت كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. ثم دخل الثالث فقال : السام عليك. فلم أصبر حتى قلت : وعليك السام وغضب الله ولعنته إخوان القردة والخنازير أتحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يحيه الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش قالوا قولا فرددنا عليهم إن اليهود قوم حسد وهم لا يحسدونا على شيء كما يحسدونا على السلام وعلى آمين » . [رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي واللفظ لابن خزيمة].أما من ظُلم فإن الجهر بالسوء منه نوع من أنواع القصاص الذي به الحياة فهو ليس سيئاً بالحقيقة إنما سمي بذلك لصورته فقط (وجزاء سيئة سيئة مثلها) والعقاب الرادع عن الجريمة ليس سيئة إلا في الصورة دون الحقيقة.
وجماع ذلك كله قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل :90].
المكتب السياسي
10 / 11 / 2013