هي ليلة القدر من الشرف ، القدر أصله : الشرف والمنزلة ، فلان له قدر يعني إذا كانت له منزلة وشرف .
وصفت بذلك ؛ لعظيم شرفها وفضلها ، ولعِظم شرفها وفضلها أنزل الله فيها أفضل كتبه ، ونبّأ فيها أفضل رسله – صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين – ؛ فقال تعالى { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ } ، ولما أورد هذا السؤال ؛ أورده تعظيما لها وتشريفا ، فإذا ورد الشيء بصيغة السؤال والاستفهام إشارة إلى علو مكانته ، وعِظم شرفه ، وهي كذلك ، وقيل : ليلة القدر ؛ لأنه تقدّر فيها الأشياء ، وتكتب فيها المقادير ، في صحف الملائكة ، وينسخون المقادير من العام إلى العام ، كما بيّنت ذلك النصوص ؛ كما قال تعالى { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } على القراءة على الوجه الأول من كل أمر أي ما فيها من أوامر للعام القادم فيكتب فيها ، سعادة السعداء ، وشقاء الأشقياء ، والأقوال والأعمال ، والأعمار، فتنسخ بإذن الله – تعالى – .
قيل : ليلة القدر من القَدْر ، وهو التضييق ، قال تعالى { وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ } يعني ضيّق في حِلق السرد ، وهذا أصله يعني في لغة العرب : القدر والتضييق ، وهو معروف في لسان العرب ، كما قال تعالى { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ } يعني يوسّع ويضيّق ، { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } يعني ضُيّق عليه ، قالوا : وصفت ليلة القدر بالتضييق ؛ لأن الأرض تضيق من كثرة الملائكة التي تتنزل فيها ، { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ . }
والبيت المعمور يطوف به في كل يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه أبدا ، من أنت إذا سبحت وحمدت أمام هؤلاء الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ؟! ما أغفل الناس عن الله ! وما أجهلهم بقدر الله – عز وجل – ! من كثرة نزول الملائكة تضيق الأرض ، ولذلك الملائكة إذا تنّزلت نزلت السكينة ، ومن هنا كان من علامات ليلة القدر أنه لا يرمى فيها بشهاب ؛ لأن الشياطين لا يجدون مجالا لكي يركب بعضهم على بعض ، فمن أماراته أنه لا يرمى فيها بشهاب ، والشياطين تفر من الملائكة ، { إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ. }
قال ابن عباس : رأى جبريل والملائكة ففر عدو الله ونكص على عقبيه .
وليلة القدر ليلة عظيمة ، أعطاه الله – تعالى – لهذه الأمة ، فسبقت من قبلها ، ونالت بهذا فضلا عظيما ، ولذلك جبر بها كسر هذه في نقص الأعمار ، فأعمار أمة محمد – صلى الله عليه وسلم – ما بين الستين إلى السبعين ، وجبر الله هذا النقص مع أن الأمم قبلنا أعطوا طول الأعمار ، ولكن أعطيت هذه الأمة بفضل الله – تعالى – قصر العمر مع الزيادة في الأجر في العمل .
فقيام هذه الليلة إيمانا واحتسابا ليس كألف شهر، بل أفضل من ألف شهر ، قيل : صياما وقياما . وهذا مذهب بعض السلف : أن الفضل في ليلة القدر شامل لليل والنهار، وهو اختيار الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي – رحمه الله – وطائفة من السلف .
ومن هنا قالوا : أعطي فيها هذا الفضل خير من ألف شهر ، أي عبادة أكثر من أربع وثمانين سنة ، وهذا فضل عظيم ، يناله الإنسان في ليلة واحدة ، فهذه الليلة ثبت فضلها في كتاب الله وسنة النبي – صلى الله عليه وسلم – ، قال صلى الله عليه وسلم ” من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. “
فهي الليلة التي يقومها القائمون ، فإذا أصبحوا غفرت ذنوبهم فرجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم . ” من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا ” إيمانا بالله ، واحتسابا للثواب عند الله – تعالى – ، يحتسب الأجر والمثوبة عند الله تعالى . ” غفر له ما تقدم من ذنبه ” وظاهر الحديث صغائر الذنوب وكبائرها ، حاشا حقوق الناس ، هذه لا تغفر إلا بمسامحة صاحب الحق ، وهذا يدل على عظم فضلها ، فيجتهد الإنسان في قيامها.
قال بعض السلف : “من صلى العشاء في جماعة ليلة القدر ، وصلى الفجر في جماعة أدرك حظه من ليلة القدر”. وهو قول سعيد بن المسيب – رحمه الله – ؛ ولكن هذا ضعيف ؛ لأنهم استدلوا بقول النبي – صلى الله عليه وسلم ” من صلى العشاء في جماعة كان كمن قام نصف الليل ، ومن صلى الفجر كان كمن قام الليل“» وفي بعضها ” كتب له قيام ليلة ” .
والحقيقة الحديث يقول ” كان كمن ” ما قال : كتب له قيام ليلته ، لو قال ليلته بالتخصيص لقوي قولهم إنه ينال فضيلته ؛ فحينئذ يصبح الأمر – يعني الله أعلم – كيف يكون ! إذا كان يصلي العشاء ثم ينصرف كأنه قام ليلة القدر، لكن الواقع أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال ” كتب له قيام ليلة ” وهذا هو الذي نقول ينبغي الدقة في فهم الأحاديث والنصوص إذا وردت ؛ لأنه ربما يأتي بعضها يوهم في ظاهره ، فكانوا يقولون : من صلى العشاء في جماعة والفجر في جماعة أدرك حظه من ليلة القدر، والواقع أنه لا يدرك الحظ إلا إذا قامها ؛ لنص النبي – صلى الله عليه وسلم – على ذلك .
وفي فرق بين الفضيلة المطلقة والفضيلة المقيدة ، فلو كان قيّد بنفس الليلة لكان الشأن آخر، المهم أنه إذا صلى العشاء يجتهد في قيام ليلة القدر.
اختلف العلماء – رحمهم الله – :
قال بعض العلماء : إنه يقوم الليلة كاملة ؛ ” لأن النبي – صلى الله عليه وسلم – لما دخلت عليه العشر شد مئزره، وأحيا ليله ، وأيقظ أهله ، وفي بعضها طوى فراشه ” صلوات الله وسلامه عليه كناية عن اعتزال النساء ، فقالوا لابد أن يصلي من العشاء إلى الفجر، يصلي ويذكر يكون في ذكر الله – تعالى – ولا يصدق عليه أنه قائم إلا إذا لم ينم ، أما إذا نام فقد ضيّع ، بقدر ما ينام من فضل القيام .
وقال بعض العلماء : لا بأس أن ينام بعض الليل ، مادام أنه قد قام أغلبه ؛ لأن عائشة – رضي الله عنها ” قالت : ما قام ليلة حتى أصبح “. صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا يقولون : يدل على أن النبي – صلى الله عليه وسلم – ما كان يحي الليلة كاملة ، ومن هنا رخصوا من كونه إذا تعب أو كذا أن يستجم بالنوم .
وقال بعض العلماء : أنه لو نام اليسير، ثم قام فالأجر أعظم ؛ لأنه في هذه الحالة يترك النوم ويرغب في العبادة ؛ وهذا أصدق كما قال تعالى { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ . }
فيقولون : إنه إذا ذاق لذة النوم ثم صلى فهذا أبلغ اجتهادا من شخص يستمر في صلاته فإنه لا يصل إلى آخر الليل وهو منهك متعب .
والحقيقة ظاهر النصوص أنه أحيا ليله ، وهذا يقتضي أنه أحيا الليل كاملا ، والمطلقات تقيد، وعائشة – رضي الله عنها – معروف أنها تحكي الذي كان في بيتها ، فاعتكافه – عليه الصلاة والسلام – كان في قبته ، وكان خاليا في عبادته لربه ، كما في الحديث الصحيح أنه كان تضرب له القبة ، فلذلك ظاهر النص في الإحياء أنه يبقى على ظاهره ، ويجتهد الإنسان ، لكن لو أنه لا يستطيع أن يحي الليل ، ويجد التعب ، فينام أول الليل ، ثم يقوم آخره ؛ طلبا لهذه الفضيلة ، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الإخلاص ، وأن يجعلنا وإياكم ممن صام الشهر، واستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر . إنه ولي ذلك وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
المكتب الاعلامي
28 رمضان 1434 هـ